
بقلم/نشأت البسيوني
في كل شارع وعلى كل رصيف وفي كل بيت تغلق نوافذه على أسراره هناك وجوه لم يطلب أصحابها شيئا من الدنيا بقدر ما طلبوا يدا تمتد إليهم في لحظة انكسار قد تكون كلمة وقد تكون ابتسامة وقد تكون مجرد نظرة لا تحاسب ولا تعاتب وفي زمن ازدحم بالسرعة وتقلب في قسوته أصبح جبر الخواطر ليس مجرد فضيلة بل ضرورة إنسانية تحمي ما تبقى في أرواحنا من ملامح الرحمة
الإنسان في لحظته الهشة عادة لا نرى انكسار الناس ليس لأنهم أقوياء بل لأن كل إنسان يتقن فن إخفاء جراحه هناك من يضع ابتسامة متماسكة رغم أن صمته يصرخ وهناك من يبالغ في الضحك كي يخفي وجعا يربك القلب وهناك من يعيش بيننا يحمل أثقال يومه وحده فقط لأنه لم يجد صوتا يقول له أنا سامعك وجبر الخاطر هنا لا يحتاج خطبا ولا يحتاج خططا فقط يحتاج أن
يتوقف الإنسان لحظة ويعامل الاخر كما يحب أن يعامل حين ينهار قوة الكلمة التي تعيد ترتيب الروح الكلمة الطيبة ليست مجرد حرف بل ترميم ناعم لروح تعب كم من شخص كان على وشك السقوط ثم أعادته جملة صادقة للحياة وكم من قلب كاد يختنق فأنقذته كلمة ما تقلقش أنا جنبك في الصحافة نكتب كثيرا عن الحروب وعن الاقتصاد وعن السياسة لكن هناك حربا صامتة لا يراها أحد
هي حرب الإنسان مع نفسه وجبر الخاطر هو الهدنة التي تعيد لهذا الإنسان قدرته على الاستمرار الناس الذين يمرون في حياتنا كالدواء هناك أشخاص لا يصنعون ضجيجا ولا يرفعون شعارات ولا يملكون منصات لكنهم حين يمرون في حياة أحد يتركون وراءهم أثرا ناعما يشبه شفاء الجروح القديمة هؤلاء لا يعرفون فلسفة جبر الخواطر ولا يقرأون عنها ولا يكتبون فيها هم يمارسونها بالفطرة يعرفون
متى يسكتون ومتى يبتسمون ومتى يربتون على كتف تعب وما أجمل أن يكون وجود الإنسان في حياة الاخرين طمأنينة مجتمع لا يقسو بل يرفق إذا أردت أن تعرف رقي مجتمع فلا تنظر إلى مبانيه ولا شوارعه ولا كباريه انظر إلى كيفية تعامله مع المنكسرين هل يسحقهم أم يحتضنهم هل يحول ألمهم مادة للحديث أم يقدم لهم سترا لا يرى الأمم ترتقي حين يصبح جبر الخاطر سلوكا عاما لا
ينتظر مناسبة حين يعرف الإنسان أن الكلمة قد ترفع وقد تذبح فيختار الأولى لماذا أصبح جبر الخاطر عملا صعبا ليس لأن الناس تخلت عن طيبتها بل لأن الإيقاع أصبح أسرع من قلوبنا كل يجري خلف يومه خلف رزقه خلف ضغوطه حتى نسي أن يلتفت وأحيانا لا نحتاج أن نكون فرسانا لحل مشاكل الاخرين نحتاج فقط ألا نكون سببا في زيادة وجعهم من قال إن جبر الخاطر يتطلب المال
أحيانا يتطلب خلقا وأحيانا يتطلب إنسانية وأحيانا يتطلب صمتا ذكيا يعرف متى لا يزيد الجرح نزفا أمثلة من واقع نعيشه كل يوم عامل بسيط أرهقته الحياة سمع يوما كلمة تقدير من زبون فعاد لبيته خفيفا كأنه حمل الكون ووضعه أم تقاتل وحدها من أجل أولادها فتسمع جملة ربنا يقويكي فتغلب العالم كله صديق كان على حافة أن يفقد نفسه ثم جاءه احتواء بلا مصلحة فعاد أقوى مما كان
شيخ كبير عبر الطريق فشعر أن الدنيا ما زالت بخير لأن أحدهم أمسك بذراعه المواقف صغيرة لكن أثرها لا يقاس حين يصبح جبر الخواطر قوة اجتماعية الدول التي تهتم بالإنسان قبل الإنجاز تعرف أن الرضا الداخلي هو المحرك الأول للإنتاج لذلك جبر الخاطر ليس مجرد خلق ديني أو قيمة أخلاقية بل هو استثمار إنساني إنسان راض قادر على العمل إنسان محترم قادر على العطاء إنسان محاط
بالتقدير قادر على الإبداع والمجتمعات التي تفهم هذا تثمر لأنها تبني الإنسان قبل أن تبني الحجر الوجوه التي لا نعرفها لكن نؤثر عليها نمر على الناس بسرعة لكن لا نعرف ما الذي تفعله كلماتنا في أرواحهم كلمة تشبه بلسما أو كلمة تشبه سكينا كل منا يملك القدرة على أن يكون أحدهما الكاتب العامل الطبيب السائق الطالب الأم البائع الجميع قادرون على أن يغيروا حياة أحد دون أن يدركوا جبر
الخواطر مسؤولية لا يعفى منها أحد لسنا مطالبين أن ننقذ العالم لكننا مطالبون ألا نكسره لسنا مطالبين أن نصلح كل شيء لكننا مطالبون ألا نكون سبب خراب شي كل إنسان مهما كان موقعه قادر على أن يكون لحظة رحمة في وقت قاس قادر على أن يمد يدا
تعين أو على الأقل لا تدفع إنسانا نحو الهاوية ما يبقى بعد الرحيل
العمر لا يبقى في الذاكرة عدد الأيام التي عشناها بل يبقى كيف عشناها ولا يبقى عدد الكلمات التي قلناها بل يبقى أثر الكلمات التي جبرت وطيبت ورفعت جبر الخواطر ليس ترفا إنه صنعة الأرواح النظيفة وهو الشيء الوحيد الذي كلما عطيته عاد إليك مضاعفا في وقت أنت فيه أحوج ما تكون لمن يجبرك
إضافة تعليق جديد