رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأحد 23 نوفمبر 2025 10:48 م توقيت القاهرة

حين يتحول الصمت الى وطن

بقلم/نشأت البسيوني 

حين يتحول الصمت الى وطن يبدأ الانسان في اكتشاف ملامحه الحقيقيه التي نسيها في ضجيج الايام ويشعر ان الخطوات التي طالما مشت فوق تعبه تعود اليوم لتسير معه لا فوقه وان الهموم التي حاول الهروب منها لم تكن تنتظر سوى هذه اللحظه لحظه الهدوء الذي يكشف ما خفي ويعيد ترتيب ما سقط من روحه دون ان يشعر فيدرك ان الصمت ليس فراغا بل مساحه ممتلئه بالبوح 

الصامت الذي لا يسمعه الا قلب تعب من الكلام الذي لم يجد مكانه ويمتد الطريق امامه بلا بدايات واضحه ولا نهايات واضحه لكنه يشعر به كما يشعر بوجعه القديم يعرف انه طريق يشبهه لانه لا يطالبه بشيء ولا يفرض عليه دورا ولا يجبره على ان يكون غير ما هو عليه فقط يمهد له مساحه يرى فيها كيف حمل قلبه ما لا يتحمله وكيف خبأ حزنه في ضحكات كثيره وكيف حاول ان يبدو 

بخير رغم ان داخله كان يتشقق بصمت فيجلس مع نفسه كما لو انه يجلس مع انسان يفهمه اكثر مما فهمه الناس سنين طويله ويجد في هذا السكون حضورا لا يحتاج الى كلمه ولا الى تبرير ولا الى قوه مصطنعه بل يحتاج الى صدق خالص ينساب من داخله كما ينساب الماء في طريقه دون مقاومه وفي هذا الامتداد الصامت يبدأ يرى تفاصيل كانت موجوده لكنها كانت تختفي تحت غبار 

الايام فيرى حزنا ظنه اختفى لكنه كان ينتظر لحظه اعتراف ويرى فرحا صغيرا كان يمر سريعا دون ان ينتبه لقيمته ويرى وجوها عبرت حياته وتركت فيه اثرا لا يزول ووجوها اخرى قضى معها وقتا طويلا دون ان تترك داخله شيئا فيعرف ان القرب ليس بالزمن بل بالاثر وان البقاء ليس بالوجود بل بما يقدمه هذا الوجود من معاني تجعل القلب يطمئن لاجله وينحني امام صدقه ويستمر 

الصمت في كشف الابواب التي لم يفتحها من قبل فيرى نفسه وهو يحاول ان يكون قويا اكثر مما ينبغي ويحاول ان يخفي ضعفه حتى عن قلبه ويحاول ان يظهر في كل موقف انه قادر على حمل العالم فوق كتفيه بينما هو في الحقيقه كان يحتاج الى يد واحده فقط تربت عليه وتقول له انه يكفي كما هو من غير تمثيل ولا ادعاء ولا محاولات لا تنتهي لارضائهم جميعا وهو لا يستطيع حتى ان 

يرضي نفسه في لحظه واحده ويشعر الانسان انه لا يحتاج الى كثير من الضجيج ليعرف مكانه الحقيقي في الحياه ولا يحتاج الى كلمات كثيره ليفهم ما يشعر به ولا يحتاج الى حضور كثيرين ليعرف قيمته بل يحتاج الى هذا السكون الذي يكشف له ان القوه ليست في الظهور بل في الصدق وليست في الكلام بل في الفهم وليست في الجمع بل في الغربله وفي اختيار من يترك داخله نورا 

لا ينطفئ عندما يبتعدون ويصل الانسان الى لحظه يدرك فيها ان الصمت لم يعد هروبا ولا ضعفا بل اصبح وطنه الذي يحميه من نفسه ويحميه من العالم ويحميه من الكلمات التي تقال بلا معنى والوعود التي تعطى بلا نيه والقرب الذي يحدث بلا عمق فيجد في هدوئه ما لم يجده في كل تلك الضوضاء التي عبرت حوله دون ان تلمس قلبه لمسه حقيقيه واحده وفي هذا الوطن الصامت يتكشف 

له ان الاشياء لم تضع كما ظن وان الايام لم تخنه كما اعتقد وان البشر لم يكونوا كلهم كما تخيل حين كان متعبا ومرهقا ومنطفئا بل كانت الحياه تختبره بطريقتها حتى ينضج هذا القلب الذي طالما تمنى ان يفهمه احد لكنه لم ينتبه ان اول من يجب ان يفهمه هو نفسه وانه حين يعود الى ذاته سيعرف كيف يختار وكيف يقرر وكيف يغادر وكيف يبقى وكيف يمنح وكيف يمنع وكيف يمشي في 

الطريق من غير ان يفقد ملامحه او يتنازل عن روحه وحين يصل الى هذه الحقيقه يشعر ان الصمت لم يعد مجرد حاله بل اصبح خلاصا يعبر به نحو نسخه اكثر وضوحا واكثر راحه واكثر صدقا واكثر قربا من ذاته فيهدأ القلب الذي طال صراعه ويستريح العقل الذي طال قلقه وتعود الروح التي كانت مشتته الى مكانها الاول فيجد نفسه مره اخرى لكنه يجدها هذه المره بشكل لم يعرفه من 

قبل ويكتشف ان كل هذا الطريق الذي قطعه لم يكن هدرا ولم يكن ضياعا ولم يكن فراغا بل كان مرحله ضروريه كي يفهم كيف يحمي روحه وكيف يصدق قلبه وكيف يسمع صمته وكيف يتعامل مع نفسه كأنها الشيء الاغلى الذي يجب الحفاظ عليه فيكبر داخله هذا الادراك الذي يمنحه سلاما لا يستطيع العالم كله ان يمنحه فيعرف انه وصل الى نهايه مرحله وبدايه مرحله اخرى لكنه هذه المره يصل 

وهو اقوى وهو اهدأ وهو اكثر قربا من ذاته وهو اكثر رفقا بقلبه فيغادر الصمت لا هربا منه بل اطمئنانا اليه لانه اصبح وطنه الذي يعود اليه كلما ضاقت عليه الحياه وكلما ارهقته الخطوات وكلما احتاج الى مكان يضمد روحه دون ان يطالبه بأي شيء وهنا تنتهي رحله هذا المقال لكن رحله الانسان مع صمته لا تنتهي بل تبقى ممتده معه اينما ذهب لأنها جزء من تكوينه وجزء من فهمه العميق 

لنفسه وجزء من الطريق الذي سار فيه حتى وصل الى هذه اللحظه التي يدرك فيها ان الصمت وطن لمن يعرف كيف يسمعه ووطن لمن يعرف كيف يسكنه ووطن لمن يعرف كيف يكون نفسه دون خوف ودون ضجيج ودون انتظار لأي شيء من احد

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
15 + 3 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.