نحيا من أجلهم... لأن الغياب لا يقتل الحب
بقلم / سماح عزازي
ثمة لحظة لا تُشبه أي لحظة أخرى، لحظة يتوقف فيها الزمن فجأة، يتجمد فيها الهواء في رئتيك، ويتصدع قلبك من الداخل كزجاج هشّ. تلك اللحظة التي تسمع فيها خبر الغياب لأول مرة. لا شيء يُعدّك لها؛ لا النصائح ولا الكتب ولا الدموع المؤجلة. لحظة تشعر معها أن الحياة بكل اتساعها أُغلقت في وجهك، وأن كل الطرق تنتهي إلى حفرة عميقة في صدرك.
في تلك اللحظة، ينهار شيء فيك، شيء أساسي، شيء لن يعود كما كان.
تجلس على الأرض، تُحدّق في الفراغ، تتساءل: كيف يمضي العالم هكذا؟
لماذا لا يتوقف الناس عن السير في الشوارع؟
لماذا ما زالت الشمس تشرق والسماء زرقاء؟
ألا يفترض أن ينكسر كل شيء حين يغيب من نحبّ؟
لكن… مع مرور الوقت، ومع انكسارات جديدة تلتئم ببطء، تدرك أن الغياب لا يعني النهاية، وأن هناك حياة أخرى تبدأ من رماد الألم. تدرك أن الحب الذي تركه الراحلون في قلوبنا ليس حكاية ماضية، بل قوة تسري في دمائنا، تحملنا على العيش رغم كل شيء.
الغيابُ يا أحبّتي، ليس النهاية التي يتصوّرها البعض، وليس تلك الصفحة البيضاء التي يُطوى فيها كلُّ ما كان، كما يتخيّل قلبٌ مكسور في لحظة فقدٍ أولى.
إنه تجربة مُركّبة، موجعة وحادّة، لكنها — بعد أن تهدأ عاصفتها — تتحوّل إلى باب جديد للحياة.
حين يرحل من نحب، نظن أن العالم كلّه قد توقّف، وأن الساعة لم تعد تدور.
نتلمّس الهواء من حولنا فنشعر أنّه أثقل، أنفَسَة لم تعد كما كانت، وأن كل ما هو حيّ صار صامتًا.
نجلس في ركن الغرفة ونقول: "انتهى كل شيء".
لكن شيئًا فينا — رغم الألم — يظل يرفرف، يرفض الانكسار التام، يهمس لنا:
"لم ينتهِ كل شيء... لأن الحب لا يموت."
الحبّ، ذلك الكائن العجيب الذي لا يُرى، لكنه أقوى من كلّ ما نرى، لا يعرف الموت.
إنه يتشكّل ويتحوّل، نعم، لكنه لا ينطفئ.
قد يرحل الأحبة، وقد تغلق الأبواب، لكنهم يتركون في أرواحنا بذورًا لا تموت أبدًا، بذورًا تتفتّح مع كل ذكرى، كل صورة، كل عبور نسيم يحمل رائحتهم، حتى لو بعد عشرات السنين.
في البداية، حين يلسعنا الغياب لأول مرة، نقاوم الحياة.
نُغلق الستائر كأننا نُعاقب الشمس، نطفئ الأضواء كأننا نعلن الحداد على الكون كله، نرفض الضحك لأننا نعتقد أن الابتسامة خيانة.
نمشي في الشوارع بوجوه محنيّة، كأننا نجرّ ذيول الهزيمة.
نتساءل: كيف يمكن أن نعيش بعدهم؟
ثم، شيئًا فشيئًا، تُعلّمنا الأيام أن الحبّ أقوى من الموت.
يبدأ الألم في التشكل بشكلٍ جديد، يتحوّل إلى حافزٍ بدل أن يبقى كابوسًا.
نفعل أشياء صغيرة من أجلهم دون وعي:
– نُحضّر القهوة بنفس الطريقة التي كانوا يحبّونها، حتى لو لم يكن أحد سيشربها.
– نضع على المائدة طبقًا يظل فارغًا، لكنه يعطينا شعورًا أنهم معنا.
– نقرأ لهم الفاتحة حين نمرّ بالمكان الذي كانوا يجلسون فيه، ونبتسم للسماء كأننا نقول: "ها نحن نفعل ما أحببتموه."
هذه التفاصيل الصغيرة لا تُبقي الحنين حيًا فحسب، بل تُحوّل الحب إلى طقس حياة.
نكتشف أن من غابوا لم يأخذوا كل شيء معهم… تركوا لنا طريقة لنحبّهم وهم غائبون.
ومع مرور الوقت، يبدأ القلب في التغيّر.
يُصبح الحنين أقل وحشية، لكنه أكثر عمقًا.
لم نعد نبكي كل ليلة، لكن دمعة صغيرة تُضيء في الزاوية حين نسمع أغنيتهم المفضلة أو نشمّ رائحتهم فجأة في السوق.
نتعلّم أن نبتسم ونحن نذكرهم، لا لأن الوجع انتهى، بل لأن الحب تحوّل إلى نور داخلي.
الحبّ بعد الغياب مسؤولية.
أن نعيش كما كانوا يتمنون، أن ننجح كما كانوا يحلمون، أن نُكمل الطريق الذي تركونا فيه.
نحمل رسائلهم غير المكتوبة في قلوبنا ونُحوّلها إلى فعل.
حين نُنجز شيئًا جميلًا، نهمس في قلوبنا: "هذا لأجلك أنت."
هناك يومٌ، يأتي دائمًا، نلتفت فيه فجأة وندرك أننا ما زلنا أحياء.
رغم كل شيء، رغم الدموع والخذلان والليالي الثقيلة.
ندرك أن الحب الذي تركوه فينا أنقذنا، أنه أعطانا شجاعة غير مرئية لنقف من جديد.
ونُدرك كذلك أنهم — مهما غابوا — لم يغادروا تمامًا.
إنهم في أصواتنا، في دمنا، في حركات أيدينا، في الضحكات التي نطلقها دون أن نشعر، في القرارات التي نتخذها من غير أن نذكر لماذا، وفي الأحلام التي نراها فجأة ونبتسم حين نستيقظ.
ومع كل ذلك، نفهم أن الغياب لا يقتل الحب.
بل على العكس، أحيانًا يجعله أنقى.
يجعلنا نحبّ بلا شروط، بلا مقابل، بلا انتظار.
نجعل حبّهم صلاةً في السجود، دمعة على طرف الابتسامة، وردة نضعها على النافذة دون سبب، صدقة خفية، ضحكة صافية، حياة لا ننساهم فيها أبدًا.
في لحظة ما، بعد الكثير من الدموع والصمت والحنين، نكتشف شيئًا لم نكن نراه من قبل:
أن الغياب لا ينتصر أبدًا.
ربما يُنهكنا، يُرهق قلوبنا، يجعل الليل أطول والعمر أكثر ثقلاً… لكنه لا يطفئ الحب.
الحب لا يموت.
إنه يغيّر مكانه فقط.
يتحوّل من ضحكة نسمعها إلى ذكرى نبتسم لها، من يد دافئة تمسك بأيدينا إلى صلاة نرفعها لهم في الليل، من حضورٍ ملموس إلى ظلّ يسكن أرواحنا.
ونفهم فجأة أننا لم نعد نعيش لأنفسنا فقط.
بل نعيش لأجلهم.
لأجل أحلامهم التي تركوها على الطاولة، لأجل الأمنيات التي لم تتحقق بعد، لأجل الابتسامات التي كانوا يريدون أن يروها على وجوهنا.
هكذا يصبح الحنين طقسًا من طقوس الوفاء، ويصبح الحب نورًا لا ينطفئ، ويصبح الغياب مجرد ممر طويل نحو لقاء آخر… لقاء نؤمن أنه سيأتي.
وعندما نُغلق أعيننا ذات يوم، سنجدهم هناك.
ينتظروننا بابتسامة لم يخفت ضوؤها يومًا.
لأننا طوال هذا العمر لم نكفّ عن الحب… ولم نكفّ عن الحياة.
وحين يسألنا أحد: "هل تجاوزت الفقد؟"
نبتسم بصمت، لأن الحقيقة أنه لا يُتجاوز.
الغياب لا يُمحى، لكنه يتحوّل.
نحمله في قلوبنا ونمضي.
ولأن الحب لا يموت… نحيا من أجلهم.
نحيا من أجلهم... لأن الغياب لا يقتل الحب
لأجلهم. دائمًا لأجلهم.
بقلم د/سماح عزازي
"في عمق الغياب، نجد أنفسنا نحيا مرتين… مرة من أجلنا، ومرة من أجل الذين رحلوا، لنُثبت أن الحبّ لا يموت حتى حين يغيب أهله."
إضافة تعليق جديد