رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

السبت 10 مايو 2025 7:20 م توقيت القاهرة

الحلقة السابعة من سلسلة شخصيات أثرت في حياتي

العلم والإيمان... وشيء آخر اسمه مصطفى محمود
بقلم د/سماح عزازي
في زمنٍ كانت فيه الشاشة تُغرق العقول بالضجيج، ظهر رجل يُنصت إليه القلب قبل الأذن، ويُخاطب فينا العقل والروح معًا. الدكتور مصطفى محمود لم يكن مجرد مفكر أو طبيب أو كاتب؛ بل كان حالة فريدة من النقاء الفكري والتأمل الوجودي، رجلًا حمل همّ السؤال وسار به في دروب الفلسفة والعلم والإيمان، حتى صار اسمه عنوانًا للبحث عن الحقيقة. لم أكن يومًا مجرد مشاهد لبرنامجه الشهير "العلم والإيمان"، بل كنتُ شريكة في الرحلة، أتابع وأتعلّم وأتأمل، حتى صارت كلماته جزءًا من تكويني الإنساني والفكري. هذا المقال ليس تأريخًا لمسيرته فقط، بل هو اعتراف بجميل التأثير، وتحية ممتنة لرجل علّمني أن التفكير عبادة، وأن رحلة العقل لا تكتمل إلا حين تمسّ نور الإيمان
في كل بيت عربي، كانت هناك لحظة صمت يفرضها صوت مميز يخرج من جهاز التلفاز، صوت يهمس بالدهشة، ويخاطب العقل والقلب معًا: "العلم والإيمان". هكذا عرفت الدكتور مصطفى محمود، لا من كتاب ولا من قاعة محاضرات، بل من تلك الحلقات الخاشعة التي جمعت بين المعجزة والعلم، بين نظرية داروين وخلق الإنسان، بين ذبابة تُبهر العلماء ونملة تُعلِّم الفلاسفة.
ذات مساءٍ من مساءات الطفولة البعيدة، وجدتني أجلس بجوار أبي أمام التلفاز الأبيض والأسود، أتابع بفضولٍ برنامجًا غريبًا... رجل هادئ القسمات، رقيق الصوت، يبدو عليه الوقار والحكمة، يتحدث عن معجزة حشرة، أو حكمة خلق النمل، أو أسرار الكواكب والنجوم، وكل ما حولنا من ظواهر فيزيائية وكونية، ثم يختم حديثه دائمًا بجملة محفورة:
"سبحانك... ما أعظمك
كنت فتاة صغيرة، يملؤني الفضول وترتعش روحي أمام أسرار الكون. وجدتُ في برنامجه بوابةً لفهم العالم، وتعلمت من صوته أن الفكر لا يتناقض مع الإيمان، وأن أعظم الاكتشافات تبدأ بسؤال بسيط: "لماذا؟".
ذلك كان أول لقاء لي مع الدكتور مصطفى محمود...
ولم يكن الأخير.
لم يكن د. مصطفى محمود مجرد مفكر، بل كان مرشدًا روحيًا وعلميًا، يخاطب فينا ذلك الجزء الباحث عن الحقيقة. منحني توازنًا نادرًا بين الروح والعقل، وجعلني أؤمن أن العلم ليس إلحادًا، وأن الإيمان ليس جهلًا.
ولد الدكتور مصطفى محمود في السابع والعشرين من ديسمبر عام 1921، في مدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية، وكان منذ صغره شديد التأمل في الطبيعة والوجود، كثير الأسئلة، يميل إلى العزلة والتفكير العميق، وكأن روحه وُلدت قبل أوانها.
التحق بكلية الطب، وتخصّص في الأمراض الصدرية، لكنه لم يُكمل مشواره المهني كطبيب، إذ كانت روحه تميل إلى البحث الفلسفي والعلمي أكثر من الجراحة والدواء. وهكذا، بدأ رحلته الكبرى مع الفكر والتأمل، رحلة جعلته ينتقل من الإلحاد إلى الإيمان، ومن الحيرة إلى اليقين، وهي رحلة دوّنها بجرأة وأمانة في كتابه الشهير "رحلتي من الشك إلى الإيمان".
ألف الدكتور مصطفى محمود أكثر من 80 كتابًا، تنوّعت بين الطب، والفلسفة، والعلوم، والدين، والأدب، بل كتب المسرحيات والروايات، وكان من القلائل الذين جمعوا بين العلم والأدب والتصوف والفلسفة في آنٍ واحد. أما برنامجه الأشهر "العلم والإيمان"، فقد تجاوز 400 حلقة، وكان فيه يمارس دور المعلم والمُبشِّر، لا بالجنة أو النار، بل بعظمة الخالق في خلقه، وبأن العلم الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا طريقًا إلى الله.
لم يكن مصطفى محمود مريحًا للسلطة، ولا تابعًا لأي تيار. كان صاحب فكر حر، ودفع ثمن استقلاله الفكري عندما أُوقِف برنامجه، وعانى من التهميش أواخر حياته، رغم أنه ملأ الدنيا نورًا ومعرفة.
أسّس مسجد مصطفى محمود في المهندسين بالقاهرة، والذي ضمّ إلى جواره مركزًا طبيًا خيريًا ومركزًا للأبحاث الفلكية والجيوفيزيقية، ليظل اسمه حيًا لا في الكتب فقط، بل في قلوب المرضى والفقراء والباحثين عن الحقيقة
حين علّمني البرنامج ما لم تعلّمه المدرسة
كان برنامج "العلم والإيمان" بوابةً لدهشتي الأولى أمام هذا الكون العظيم. لم تكن مجرد حلقات تلفزيونية، بل كانت دروسًا في التأمل والتفكر، دروسًا لم تعلّمها لي المدرسة، ولا شرحتها لي كتب العلوم، ولا أفاضت فيها دروس الدين.
لقد كان يقدّم العلم لا كعدو للإيمان، بل كدليل عليه، وكأن كل معلومة علمية تنتهي بآيةٍ قرآنية تضيء القلب.
لم يكن "العلم والإيمان" مجرد برنامج أتابعه في طفولتي أو مراهقتي، بل كان نافذتي الأولى على عالمٍ من الدهشة والتأمل. كنت أترقب حلقاته كما يترقب التلميذ درسًا من أستاذه الأول. الدكتور مصطفى محمود لم يكن مجرد مذيع أو مفكر؛ كان بوابة إلى عالمٍ جديد، يجعل من قطرة ماء دليلاً على عظمة الخالق، ومن جناح فراشة كتابًا مفتوحًا في علم الجمال الإلهي.
شيئًا فشيئًا، بدأت أرى الكون كما كان يراه هو: مخلوقًا بإبداعٍ مطلق، دقيق الصنع، متين البناء، وكل شيء فيه ينطق باسم الله. ما زلت أذكر نبرة صوته حين يقول: "الله... ليس كمثله شيء"، فأشعر أن يقيني يشتد، وأن الأسئلة التي كانت تؤرقني تهدأ في حضرة علمٍ يحمل بين طياته إيمانًا لا يلين
رحلة إلى مكتبة مصطفى محمود
كبرتُ وكبر فضولي، وبدأتُ أبحث عن هذا الرجل في المكتبات. فوجدته في عناوين تشبه الألغاز:
"رحلتي من الشك إلى الإيمان"، "لغز الحياة"، "أينشتاين والنسبية"، "حوار مع صديقي الملحد"، "الله والإنسان"، "المسيخ الدجال"، و"رجل تحت الصفر".
كل كتابٍ كان رحلة في بحرٍ مختلف، وكل صفحة كانت سؤالًا وجوديًا يُضيء العقل أو يهزّ الروح.
تأثرت بكتاباته كما تأثرت بحلقاته، فكل كتاب له كان رحلة داخل الذات والعقل والروح. رحلتي من الشك إلى الإيمان، لغز الحياة، حوار مع صديقي الملحد، كلها كانت محطات في مسيرة يقظة فكرية وروحية، جعلتني أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على التفريق بين الإيمان الحقيقي والتدين الزائف.
لقد علّمني مصطفى محمود أن العقل لا يتناقض مع الإيمان، بل هو طريقه، وأن التفكر عبادة، وأن من لم ير الله في خلية نحلٍ أو في نجمٍ سابحٍ في السماء، لن يراه في معبدٍ أو كتاب.
لم أكن مجرد قارئةٍ لكتب الدكتور مصطفى محمود، بل كنت تلميذةً في محراب فكره، أحفظ كلماته عن ظهر قلب، كأنها جزءٌ من تكويني الروحي والعقلي. كل صفحةٍ من كتبه كانت مرآةً لحيرتي وأسئلتي، وكل جملةٍ كانت مفتاحًا لبابٍ جديد في فهم الحياة والكون والإنسان. كنت أقرؤه لا لأعرف الإجابات فحسب، بل لأتعلم كيف أطرح الأسئلة، وكيف أسير في دروب التأمل بثقة المؤمن ودهشة المتعلم
أتذكر تلك الليلة جيدًا، كنت أعيش حالة من الحيرة والقلق، تتزاحم في رأسي أسئلة الوجود والمصير، حتى صادفت بالصدفة حلقة من برنامج "العلم والإيمان" كان يتحدث فيها الدكتور مصطفى محمود عن "الروح" ومعناها في العلم والدين. كانت كلماته كأنها موجهة لي وحدي، تخاطب خوفي وتسكن اضطرابي. قال يومها: "إن الإنسان ليس مجرد جسد، بل روح تبحث عن خالقها في هذا الكون الفسيح." لم أملك دموعي حينها، شعرت أنني وجدت ضالتي، وأن هناك من يفكر ويتألم ويتساءل مثلي. كانت تلك اللحظة بداية رحلتي مع كتبه، ومع نفسي.
كان أول لقاء بيني وبين فكر الدكتور مصطفى محمود عبر صفحات كتابه "رحلتي من الشك إلى الإيمان". كنت وقتها في مفترق طرق فكري، تتنازعني الأسئلة الكبرى، وتضيق عليّ الدنيا بما رحبت من كثرة التأمل والتوجس. فتحت الكتاب في ليلة هادئة، وما إن توغلت في صفحاته حتى شعرت وكأنني أقرأ سيرة ذاتية لقلقي، لمخاوفي، لتقلباتي الداخلية. سطرٌ بعد سطر، كانت كلماته تسري في عروقي كبلسم، تمنحني الطمأنينة وتفتح لي نوافذ النور في جدران الحيرة. لم يكن كتابًا فحسب، بل كان رفيقًا أنقذني من التيه، ومن يومها أدمنت القراءة له، وصار فكره جزءًا من تكويني الروحي والعقلي.
لقد تشكّلت ملامح طفولتي بين رفوف الكتب، وصفحات المجلات، وشاشات البرامج الهادفة التي كانت نوافذي الأولى نحو العالم. كنتُ أُحاصر بالأسئلة، لا أرتوي من معرفة، ولا أهدأ من تساؤل، وكأن في داخلي توليفة فريدة لا تعرف السكون. نشأت على الإيمان بأن العلم لا يرتبط بعمر، ولا يُختزل في شهادة، بل هو رحلة لا تنتهي، ومسيرة لا تعرف محطّة أخيرة. كنت أبحث في كل شيء، وأكتب عن كل شيء، لأن الإنسان بطبعه فضولي، يشتعل بالشغف كلما لاحت أمامه فكرة جديدة أو معرفة مجهولة. ولهذا لا أكفّ عن القراءة، ولا أملّ من الغوص في بحور الفكر، لأنني أدرك أن لحظة التوقف هي الموت البطيء لروحي الباحثة.
1. "رحلتي من الشك إلى الإيمان": في مرحلة مفصلية من حياتي، كنت أبحث عن يقين ينقذني من ضجيج الأسئلة الوجودية، فكان هذا الكتاب أشبه برسالة سماوية جاءتني في الوقت المناسب. قرأته مرات، وكل مرة كنت أجد فيه إجابة لسؤال لم أكن أعرف أني طرحته. شعرت أن الدكتور مصطفى يربّت على كتفي بكلماته، ويأخذ بيدي نحو نور الإيمان من أوسع أبوابه.
2. "حوار مع صديقي الملحد": وقفت كثيرًا أمام هذا الكتاب، لا لقوة الحجة فحسب، بل لصبر العالم الذي يُحاور بحكمة العارف دون تعالٍ أو إنكار. كنت في إحدى جلساتي الفكرية مع مجموعة من الزملاء، حين دار نقاش حول الإيمان والعقل، فأحضرت الكتاب وقرأت بعض صفحاته، فكان لها وقع السكينة في قلوبنا جميعًا. تعلمت من مصطفى محمود كيف أُحاور باحترام، وأفكر بلا خوف.
3. "لغز الموت": كان هذا الكتاب رفيقي في لحظة فقد. كنت قد فقدت قريبًا عزيزًا، ولم يكن في وسعي احتمال فكرة الفناء. قرأت الكتاب بدموع حائرة، فوجدت فيه عزاءً عميقًا، ونظرة مختلفة للموت كجسر عبور لا نهاية طريق. كأن الدكتور مصطفى مدّ لي طوق نجاة لأغرق في التأمل بدل الغرق في الحزن.
4. "العنكبوت": في بدايات قراءتي للأدب العلمي، فتحت هذا الكتاب بشغف، وكان بوابة لي لفهم كيف يمكن للخيال والعلم أن يتداخلا بهذا السحر. عشت مع شخصياته، واندهشت من قدرة مصطفى محمود على تحويل المعادلات والفرضيات إلى حكايات تنبض بالحياة. من يومها، لم أعد أنظر للعلم بنفس البرود، بل بتقدير مليء بالدهشة.
أما "رأيت الله"، فقد كان لحظة انخطافٍ روحي. كنت أقرأه في ليلة هادئة من ليالي الشتاء، وكل كلمة فيه كانت تنفض عن قلبي غبار التبلد، وتفتح أمامي أبوابًا من التأمل العميق في الوجود، كأني أقرأ دعاءً طويلًا لا يُقال باللسان بل يُتلى من القلب. ثم جاء "الشيطان يحكم"، فهزّني بجرأته ووضوحه، كنت وقتها أرى العالم من زاوية مثالية حالمة، حتى قرأت هذا الكتاب ففتح عينيّ على منظومة الشر المنظمة التي تحكم كثيرًا من مفاصل الحياة، فبدأت أرى الواقع بعيون أكثر وعيًا، أقل سذاجة. أما "أينشتاين والنسبية"، فكان أول كتاب يجعلني أحب الفيزياء، لا لأنها علم أرقام، بل لأنها قصة عظيمة تحكي كيف يفكر العقل حين يتحرر من الحدود. قرأته مرات، وكنت في كل مرة أخرج منه بسؤال جديد، وشغف أكبر لفهم هذا الكون المعقد الذي نعيش فيه.
مصطفى محمود... ومشوار الشك
ما شدّني إليه أكثر من علمه هو صدقه مع نفسه. لم يدّعِ الحكمة منذ البداية، بل سرد رحلته بشجاعة: كيف شكّ في كل شيء، ثم كيف قاده الشك إلى يقينٍ مختلف، لا يشبه يقين الوعاظ الجاهز، بل يقين الباحث العاشق للحقيقة.
كتب في "رحلتي من الشك إلى الإيمان":
«لقد كنتُ كالعائد من الموت... أرى الأشياء من جديد، وكأنني أراها لأول مرة»
لقد كان الدكتور مصطفى محمود أكثر من مجرد مفكر أو كاتب؛ كان مرآةً عاكسة لقلقي، ورفيقًا صامتًا في رحلتي نحو الفهم. مع كل كتاب له كنت أكتشف جزءًا من ذاتي. في "رأيت الله"، لم أقرأ كتابًا بقدر ما استسلمت لحالة روحية، انسكبت بين يديّ كأنها صلاة طويلة لا تُرفع إلى السماء بل تهبط على القلب، تهدهده وتعيد تشكيله. كنت أقرأه في ليلة باردة من ليالي ديسمبر، والريح تعصف بالخارج، بينما تسكنني سكينة غريبة، كأن كل جملة تُطفئ صخب الحياة من حولي. قال: "إن الإنسان لا يرى الله بعينيه، وإنما يرى الله بقلبه، فإذا صفا القلب تجلى الله فيه."… كانت تلك الكلمات كنافذة من نور، تنفذ إلى داخلي وتوقظني من غفلة كانت تُغشيني.
وعندما قرأت "الشيطان يحكم"، كنت لا أزال أنظر للعالم بعيون بريئة، أؤمن بأن الخير غالب، وبأن الإنسان يُولد نقيًا ويحيا طاهرًا. لكن الكتاب فتح لي نافذة على الواقع كما هو، دون رتوش، ورأيت فيه كيف تُدار اللعبة بأيدٍ خفية، لا تسعى للخير بل لتضليل الإنسان وسوقه إلى التيه. كتب يقول: "إن الشيطان لا يدخل إلا من أبوابنا نحن، حين نفتح له القلوب بالأطماع والغرور والشهوات."، وكانت تلك الجملة كجرس إنذار داخلي، أشعل يقظتي، وعلّمني أن معركة الإنسان الأولى هي مع نفسه.
أما "أينشتاين والنسبية"، فقد أخذني من عالم الأدب والفكر إلى عالم العلم والدقة، دون أن أشعر بالغربة، بل وجدت في صفحاته لغةً تشبه لغة الشعر، ودهشةً كدهشة طفل يرى البحر لأول مرة. كنت أقرأه في أحد أيام الصيف، على مقعد خشبي في حديقة منزلي، وكل صفحة كانت تسحبني إلى الفضاء، تجعلني أؤمن بأن العقل البشري، حين يتحرر من أوهامه، يمكنه أن يعانق المجرات. قال فيه: "العلم الحقيقي لا يعزل الإنسان عن الإيمان، بل يقوده إليه."، فأحسست أن بين العقل والإيمان طريقًا واحدًا، مرصوفًا بالتأمل، لا بالتصديق الأعمى.
إن هذه الكتب الثلاثة لم تكن مجرد محطات قراءة، بل كانت تحولات في الوعي، غيّرت رؤيتي للحياة والناس والله والكون. ولولاها، لما كنت اليوم بهذا العمق في التأمل، ولا بهذا الشغف في البحث، ولا بهذا الامتنان العميق لرجلٍ لم ألتقِ به يومًا، لكنه ترك بصماته في أعماقي كما يترك المطر أثره على الأرض العطشى.
الطبيب الذي داوى أرواحنا
هو طبيب، نعم... لكنه لم يعالج بالأدوية، بل بالكلمات. جعل من العلم وسيلة للفهم، ومن الإيمان ملاذًا للعقل، ومن الأدب جناحًا يحلّق به فوق الأسئلة الكبرى.
ما بين سطور كتبه، كنت أشعر وكأنه يخاطبني أنا تحديدًا... بلغةٍ بسيطة، ولكن عميقة. مزيج من شاعر وفيلسوف وعالِم ومتصوف في آنٍ واحد.
بين الدين والسياسة والمجتمع
لم يهرب من الواقع، بل غاص فيه. كتب عن الماسونية، وعن المسيخ الدجال، وعن الإسلام السياسي، وعن الإنسان الذي سحقه الفقر والفساد.
لم يكن داعية بالمعنى التقليدي، بل كان مفكّرًا يُفكّك كل شيء، ويعيد بناءه على أساس من العقل والقلب معًا.
رحل الجسد... وبقي الأثر
رحل الدكتور مصطفى محمود، لكنّه لم يمت. لأن أمثاله لا يموتون. بقيت برامجه، وكتبه، وأفكاره، وأحلامه التي لم تتحقق.
بقيت مكتبته ومشروعه ومسجده ومستشفاه الخيري... لكن بقي قبل ذلك كله أثره فينا.
من أنا حتى أكتب عن مصطفى محمود؟
أنا بنت تلك القرية البعيدة، التي كانت تنتظر برنامجه كل اثنين، وتشتري كتبه من مكتبة المدرسة القديمة، وتحتفظ بدفتر تكتب فيه اقتباساته.
أنا تلك التلميذة التي فتحت عينيها على الدنيا لتجد في مصطفى محمود أبًا روحيًا، ومعلّمًا من نوعٍ مختلف، يهمس في أذنها كلما تاهت:
"العلم بلا إيمان أعمى... والإيمان بلا علم أعرج."
كان تأثيره عليّ أعمق من مجرد إعجاب. لقد علّمني أن العقل لا يقف عند حدود، وأن الإيمان لا يُبنى على التقليد، بل على يقين يبحث ويسأل ويتأمل. لا أنسى تلك اللحظات التي كنتُ أجد فيها في كلماته عزاءً في ضيقي، ونورًا في حيرتي، ورفيقًا في وحدتي
الإيمان. لم يكن مجرد صاحب برنامج أو مؤلف كتب؛ بل كان بوصلة روحية وعقلية تهدي الحائر، وتُطمئن الباحث، وتُلهب في الإنسان شغف الاكتشاف. كلما فتحت كتابًا له، أو استعدت مشهدًا من برنامجه، شعرت أنني لا زلت تلك الطفلة التي تجلس في صمت ودهشة، تُنصت لحكيمٍ يفتح لها أبواب العالم، ويُرشدها إلى أسرار النفس والكون.
وها أنا اليوم، بعد كل تلك الرحلة الوجدانية والفكرية، لا أملك إلا أن أرفع قلمي تحيةً لرجلٍ علّمني أن الفكر ليس ترفًا، بل عبادة. أن الإيمان لا يأتي بالوراثة، بل بالبحث والشك والتأمل. وأن الكون كتاب مفتوح، لا يقرأه إلا من أعمل عقله وأرهف قلبه. إن الدكتور مصطفى محمود لم يكن كاتبًا يقدّم أجوبة، بل كان صديقًا يثير الأسئلة، ويترك لك أن تفتش عن يقينك بنفسك. ولهذا، فإنني أدعو كل شاب وشابة في هذا الزمن الصاخب، أن يمنحوا أنفسهم فرصة الإنصات لصوته الهادئ، العميق، عبر كتبه وبرنامجه الخالد العلم والإيمان. ففي كلماته ما يُربّت على روحك، ويأخذ بيدك إلى ضوءٍ لا يُطفئه الزمن.
وها هو قلمي، رغم طول المسافة، ما زال يرفض أن يتوقّف، وكأن بينه وبين السكون خصومة أبدية. فكلما هممت أن أضع النقطة الأخيرة، سال الحبر مجددًا من قلبٍ ما زال مفعمًا بالعرفان، وروحٍ لم تكتفِ من الذكرى. إن الحديث عن الدكتور مصطفى محمود لا يُختتم، لأن أثره فيّ ليس مجرد تجربة فكرية عابرة، بل مسار حياة. كأن كلماته تعيش بداخلي، تضيء لي مواضع الحيرة، وتؤنسني في لحظات التأمل. قلمي وسيلة لا ينضب معينها، وحبره لا يجفّ، لأن الحكاية لم تنتهِ… ستظل كتبه رفيقتي، وبرنامجه نافذتي، وفكره بوصلةً أرجع إليها كلما ضللت الطريق. في زمنٍ تاه فيه الكثيرون بين ضجيج الماديات، سيبقى هذا الرجل شاهدًا على أن الإيمان والعلم يمكن أن يمشيا معًا، بلا خصام، وبلا تنازلات. فسلامٌ عليك يا من علّمتني أن أتفكر، وأتأمل، وأتعمّق، دون أن أفقد طهر القلب وصفاء النية.
قلمي لا يريد أن يتوقف، وكلماتي تأبى أن تُسدَل، لأن الحديث عن مصطفى محمود لا يُختزل في مقال، ولا يُحبس بين السطور. إنه سيل من الإلهام لا ينضب، وحبره لا يجف، كما أن أثره فيّ، وفي جيلٍ كامل، سيظل شاهدًا على قيمة الإنسان حين يُسخّر عقله لمعرفة خالقه، وقلبه لفهم ذاته، وحياته لتنوير الآخرين.
لقد ترك في قلبي أثرًا لا يُمحى، وفي عقلي بابًا لا يُغلق، وفي وجداني عطشًا دائمًا للمعرفة والتأمل. وسيبقى اسمه محفورًا على جدران الروح، كأجمل ما أنجبت المعرفة حين تصافحت مع الإيمان
لو خُيّرت أن أُطلق على هذا المقال عنوانًا آخر، لقلت:
"رجلٌ عاش كأنه سؤال... ومات كأنه إجابة."
هذا هو مصطفى محمود بالنسبة لي...
وإن لم تفهمني الآن، فافتح أيًا من كتبه، واقرأ له... وستعرف

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.