بقلم د/ سماح عزازي
في ذاكرة كل إنسان محطة مضيئة، تقف عندها الروح كلما أثقلها الواقع، وتعود إليها لتستمد الحلم، وتسترجع دهشة الطفولة ونبض المغامرة الأولى. وفي عمق تلك الذاكرة، يسكن رجل لم نلتقِ به يومًا، لكنه كان الأقرب إلينا من كثيرين؛ يسكن بين السطور، ويحيا في صفحات صغيرة الحجم، عظيمة الأثر. هو الذي علّمنا أن الوطن لا يُدافع عنه بالسلاح فقط، بل بالكلمة، بالفكرة، بالإيمان. هو من فتح لنا أبواب الخيال فصرنا نرى أبعد من الواقع، ونحلم رغم الضيق، ونقاوم رغم الانكسار. هو الذي جعل من "أدهم صبري" صديقًا لنا، ومن "رجل المستحيل" مرآةً لجيلٍ بأكمله.
قد يمرّ في حياتنا أشخاص نلتقيهم يوميًا، يشاركوننا تفاصيل الحياة الصغيرة ويتركون بصمة لا تُنسى، لكن هناك من لم نرهم قط، ولم نسمع صوتهم يومًا، ورغم ذلك كانت كلماتهم تُشكّل وعينا، وتحفر في ذاكرتنا طريقًا لا يُمحى. من بين هؤلاء كانت شخصية اليوم: الكاتب الكبير نبيل فاروق، الذي لم يكن فقط كاتبًا مبدعًا، بل كان حلمًا حيًا صنع خيال جيلٍ بأكمله، وفتح لنا أبواب الأدب من أوسعها.
كان ذلك عام 1984، وكنتُ حينها طفلة لم تتجاوز التاسعة من عمرها، أهوى القراءة وأعشق مجلات مثل "سمير" و"ميكي"، أبحث عن أبطال، عن عوالم خيالية تُشبع نهمي الطفولي للمغامرة، حتى وقعت بين يدي أولى أعداد "رجل المستحيل". ولم يكن الأمر مجرّد كتاب صغير بغلاف لامع، بل كان نافذة سحرية أطللتُ منها على عالم آخر، لا يشبه أي شيء عرفته من قبل.
أدهم صبري... ذاك البطل المصري الذي لم يكن خارقًا كأبطال مارفل، بل كان قريبًا جدًا، يشبه أخي الأكبر أو ابن الجيران. يملك جسدًا رياضيًا، عقلًا تحليليًا، ووطنيّة متقدة.
كان نقيًا، نبيلًا، لا يقتل إلا مضطرًا، ولا يخون، ولا يتخاذل.
أدهم صبري لم يكن مجرد شخصية خيالية، بل كان أيقونة تربوية، علّمتنا أن البطولة ليست في العضلات، بل في القيم، والالتزام، والولاء للوطن.
نبيل فاروق لم يكتب روايات بوليسية وحسب، بل كتب شخصيات. كتب الحلم، والتحدّي، والدهشة، والانتصار.
في كل عدد جديد من "رجل المستحيل"، كنت أعيش مغامرة ممتلئة بالإثارة، لكنني – دون أن أدري – كنت أتشكل. كنت أتعلم كيف أصيغ الجملة، كيف أبني الفكرة، كيف أحوّل الكلمات إلى مشاهد نابضة بالحياة.
ومن خلال "رجل المستحيل"، ومن بعدها "ملف المستقبل"، فتحت قلبي للأدب، وتسللت إليّ رغبة الكتابة.
أدركتُ حينها أن القلم قادر على صنع العوالم، وأن الكاتب الحقيقي لا يروي فقط، بل يربّي، ويهذّب، ويبني إنسانًا.
نبيل فاروق لم يؤثّر فيّ وحدي، بل في جيل بأكمله.
جيل السبعينات والثمانينات والتسعينات، الذين جلسوا في الظل، في غرف متواضعة، وبين أيديهم رواية من الحجم الصغير، لكن بأثر لا يُقدّر بثمن.
جيل تربّى على مفاهيم الكرامة، والانتماء، والذكاء، والإيمان بالقدرة الفردية على التغيير.
لقد علّمنا كيف نقرأ لنحلم، وكيف نكتب لنُغيّر.
علّمنا أن القصة ليست لهوًا، بل مسؤولية، وأن الكاتب ليس تاجر ورق، بل مهندس عقول.
اليوم، وأنا أكتب هذه السطور، أدرك كم كانت كلمات نبيل فاروق حجر الأساس في طريقي ككاتبة، وكم أن "أدهم صبري" كان أول معلمي في صناعة الخيال، والحبكة، والشخصية.
رحل نبيل فاروق عن عالمنا، لكنّه لم يرحل من وجداننا.
ما زالت كلماته تعيش بين دفاتر الذكريات، وما زال "رجل المستحيل" يحيا في قلوبنا، لا كقصة فقط، بل كفكرة... كمنهج.
تعريف الشخصية:
إنه الدكتور نبيل فاروق، الكاتب والطبيب، صانع الخيال، ومهندس الحلم العربي.
وُلد عام 1956، ودرس الطب، لكن قلمه اختار مسارًا آخر.
عُرف بقدرته الفريدة على الجمع بين التشويق الأدبي والرسالة الأخلاقية، فغرس في قلوب الشباب حب الوطن، وسحر القراءة، وشغف الاكتشاف.
هو مؤلف سلسلة "رجل المستحيل"، و"ملف المستقبل"، وغيرهما من سلاسل روايات مصرية للجيب، التي كانت بمثابة مدرسة كاملة لتنشئة جيل يحلم ويحب ويكتب.
في هذا المقال، لا أكتب عن كاتبٍ فقط، بل عن معلم من
نوع خاص... علّمني الكتابة من دون أن يراني، وفتح لي
بوابة الأدب في عمر كانت فيه الحروف أعمدة حياة.
كاتب جيل لا يُنسى
نبيل فاروق… من جعلنا نحلم ونحارب ونكتب
الطبيب الذي خلع المعطف الأبيض ليرتدي معطف الخيال، وبدأ يغزل بعقله ووجدانه ملاحم شكلت وعي أجيال، وسحرتهم بسحر الكلمة والمغامرة.
"رجل المستحيل"... الحلم الذي كبر معنا
"لن أترك بلدي أبدًا… ولن أقبل أن تُهزم أمام أعدائها
ما دمت أتنفس"
بهذا الصوت الداخلي لأدهم صبري، تسلل نبيل فاروق إلى عقولنا الصغيرة، فخلق بطلاً خارقًا بلا قوى خارقة، يؤمن بالله، ويخوض معاركه بعقل وضمير وكرامة.
قرأت فكتبت… وتأثرت فأصبحت
لم تكن رواياته تسلية، بل غذاء للخيال ومحفّزًا على الحلم.
لقد علّمني أن القلم سلاح، وأن الكلمة يمكن أن تكون طلقًا في وجه الجهل أو الظلم.
نبيل فاروق لم يؤثر فقط في ذوقي القرائي، بل في شخصيتي وخياري أن أكتب يومًا ما.
"ملف المستقبل"... حين صار الغد ممكنًا
"العلم لا حدود له… والمستقبل ليس حلمًا،
بل مشروعًا نكتبه اليوم"
بهذه العبارات، قادنا نحو الخيال العلمي العربي، فأيقظ فينا حب المعرفة والتساؤل، وربّى فينا الحلم بعالم أفضل.
نبيل فاروق... لا زلت بيننا
رغم رحيله، لا تزال كتبه تُقرأ، وشخصياته تُروى، وأحلامه تُستعاد.
فكل طفل قرأ له صار شابًا يؤمن أن المستحيل مجرد بداية، وكل كاتبة مثلي تدين له بجمرة الحبر الأولى.
من هو نبيل فاروق؟ (1956–2020)
كاتب وروائي مصري، رائد الخيال العلمي وأدب الجاسوسية في العالم العربي.
من أشهر أعماله سلسلة رجل المستحيل وملف المستقبل ضمن سلسلة "روايات مصرية للجيب."
ترك أثرًا لا يُمحى في وجدان أجيال من القرّاء والكتّاب.
شكرًا لك، يا من جعلتنا نصدق أن المستحيل وهم، وأن الحكايات قادرة على تغيير العالم.
إضافة تعليق جديد