رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الخميس 24 أبريل 2025 12:15 ص توقيت القاهرة

كتاب بنو إسرائيل من النبوة إلى الاحتلال قراءة في التاريخ والدين والسياسة

الفصل الأول:
من يعقوب عليه السلام إلى الصراع الكبير
بقلم د/ سماح عزازي
مقدمة الفصل
ليست قصة بني إسرائيل حكاية شعب وُلد من لحم ودم
فقط، بل هي تجلٍّ دقيق لمشروع إلهي بدأ من النبوة، واختُبر بالتمكين، ثم انحرف بالخذلان، وسينتهي بصراع طويل مع الحق. وحين نعود إلى البداية، لا بدّ أن نبدأ من يعقوب عليه السلام، ذلك النبي الذي ورث النور عن أبيه إسحاق وجده إبراهيم، والذي كان ميلاده بداية تفرّع أمة من أصل النبوة، أمة أُطلق عليها لاحقًا "بنو إسرائيل".
لم يكن بنو إسرائيل مجرد ذرية نبيّ، بل جماعة اختارها الله لحمل رسالته في فترة من الزمان، قبل أن تنكث العهد وتدخل مسارًا معقدًا من التمرد والابتلاء. وهذا ما يجعل قصتهم تبدأ من الإيمان، لكنها لا تنتهي به دائماً.
1. نسب يعقوب عليه السلام وسياق النبوة
يعقوب عليه السلام هو الابن الثاني لإسحاق بن إبراهيم، وقد نشأ في بيت النبوة، وتربّى على التوحيد، والتسليم المطلق لله. وفي التوراة يُسمّى "إسرائيل"، وهو الاسم الذي حملته ذريته من بعده، فعُرفوا بـ "بني إسرائيل".
إن النبوة في بيت إبراهيم عليه السلام كانت مشروعًا إلهيًّا عالميًا، لا يتعلّق بشعب واحد، بل بميراث التوحيد في الأرض. وقد اختار الله من أبناء إبراهيم إسماعيل وإسحاق، ثم من نسل إسحاق جاء يعقوب، ومن ذريته الاثنا عشر ولدًا، الذين سيكونون لاحقًا أساس الأسباط الاثني عشر.
وفي بيت يعقوب، وُلدت بذور الاصطفاء كما وُلدت بذور الغيرة والفتنة. كان يوسف عليه السلام هو الابن الأصفى قلبًا والأرقى فكرًا، والأقرب إلى روح النبوة، وهو ما جعل الوحي يصطفيه، ويُمهّد له مسارًا مختلفًا تمامًا عن بقية إخوته.
2. يعقوب وأبناؤه: النشأة والصراع العائلي
في بيئة تتعدد فيها الزوجات، وتنقسم فيها المشاعر بين حب راحيل ومكانة ليئة، نشأ أبناء يعقوب في جوّ مركّب من الحب والتنافس والغيرة. وقد كانت هذه العوامل جزءًا من الابتلاء التربوي لأسرة نبوية. فحتى في بيوت الأنبياء، تتجلى النفس البشرية بكل ما فيها من ضعف وشهوة وسعي للتفوق.
لم يكن يعقوب غافلاً عن ذلك، لكن محبته الفطرية ليوسف عليه السلام، والذي رأى فيه رؤيا عظيمة وهو صبي، جعلت حذر الأب النبوي يتصادم مع غيرة الإخوة.
3. رؤيا النبوّة: الحلم الذي أطلق المصير
منذ طفولته، حُمّل يوسف عليه السلام رسالة عظيمة، بدأ انكشافها برؤيا ليست كأي رؤيا. لم تكن أضغاث أحلام، بل كانت نبوءة مصوغة بلغة الرمز الإلهي، تُخبر عن مجد قادم وسجود كواكب لفتى في عمر اللعب. قال:
"إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين" (يوسف: 4)
هذه الرؤيا كانت إعلانًا مبكرًا لاختيار إلهي سيبدّل مصير هذا الطفل، ويمهّد طريقًا شاقًا لكنه مملوء بالعناية الإلهية. أحد عشر كوكبًا: هم إخوته، والشمس والقمر: هما أبوه وأمه أو أبوه وخالته التي ربته، في بعض التفسيرات.
يعقوب، النبي العارف بلغة الرؤى، أدرك أن يوسف سيُبتلى كما ابتُليت ذرية الأنبياء قبله، لكنه سيُرفَع كما رُفِع الصادقون من قبل. لم يكن خوف يعقوب من الحلم، بل من النفوس التي ستهيج بسببه. فحذره بلين الأبوة:
"يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا" (يوسف: 5)
كانت هذه الرؤيا فاتحة السورة وفاتحة القدر، واختُتمت السورة نفسها بتحقّق الحلم، حين دخل الإخوة وأبواه على يوسف وسجدوا له شكرًا وتعظيمًا لما أتمّه الله.
"يا أبتِ هذا تأويل رؤيايَ من قبلُ قد جعلها ربي حقًّا" (يوسف: 100)
هذه الحلقة التي بدأت برؤيا وانتهت بتأويل، تكشف لنا كيف يتحوّل الابتلاء إلى تمكين، وكيف يسير المشروع الإلهي برغم كيد الكائدين وضعف البشر. ولعل هذا من أعظم الرسائل التربوية في القصة كلها: أن الله لا يُخلف وعده، وأن الرؤيا الصادقة حين تكون من الله، فإنها قدر يُصاغ في الغيب ويُنسج في الواقع.
4. يوسف في الجب: البداية من قاع الابتلاء
حين احتدم الحسد في قلوب الإخوة، لم يتورّعوا عن إبعاد يوسف عن أبيه، عبر مكيدة محكمة ألقوه فيها في غيابة الجب. تركوه هناك وحيدًا، لكن الله لم يتركه. فمن الجبّ، تبدأ رحلة يوسف عليه السلام نحو التمكين، ليصبح بعد سنوات "عزيز مصر"، بعد أن خاض تجربة العبودية والسجن والفتنة.
"كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" (يوسف: 76)
وهكذا بدأ التكوين النفسي والقيادي لنبيٍّ سيقود لاحقًا أمّة، ويوفّر لبني إسرائيل ملاذًا في أرض مصر، سيغدو لاحقًا منفىً لهم تحت سلطة فرعون.
5. الصراع الكبير... حين بدأ بنقض العهد ووأد النبوّة
لم يكن الجبّ مجرّد حفرة في الأرض، بل كان حفرة في القلوب، وفجوة عميقة في العهد الذي قطعته ذرية الأنبياء مع ربهم.
لقد كان يوسف نبيًا في طور التكوين، بينما كان إخوته حملة ميراث النبوة بلا إدراك لحملها. وهنا بدأت أول فصول "الصراع الكبير": صراع أبناء النبوة مع حامل النبوة.
بدأ الصراع حين خانوا الأمانة، وأغرقوا يوسف في الجب. ثم تتابعت حلقاته، حين عادوا إلى أبيهم بدمٍ كذب، وقلب كاذب، وقصة مختلقة.
ثم حين بيع يوسف في قافلة، وانتقل إلى بيت العزيز في مصر، بدأت رحلة الغربة والنمو. وهناك، في ظلال قصرٍ فخم، وُضع يوسف في اختبار الفتنة مع زليخة، فنجح حين قال:
"رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ" (يوسف: 33)
وفي السجن، التقى رجلين، فسر لهما رؤياهما، وكان ذلك بابًا للتمكين. لكنه لبث في السجن سنين، حتى شاء الله أن يخرجه، حين احتاج الملك لتفسير رؤيا عظيمة:
"إني أرى سبع بقرات سمان…"
وحين فسرها يوسف، لم يطلب إلا أن يُبيَّن الحق، فقال:
"ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن"
ليُبرّئ نفسه، قبل أن يطلب السلطة.
فقال الملك:
"ائتوني به أستخلصه لنفسي"
فأصبح يوسف عزيز مصر، يتصرّف في خزائنها، ويُدبّر أمرها.
6. حين عاد الإخوة... وسُجِّل العار الثاني
لكن الصراع لم ينتهِ عند الجب، بل استمر حين عاد الإخوة إلى يوسف وهم لا يعرفونه، يطلبون طعامًا زمن المجاعة.
عندها، اختبرهم مرة أخرى، واحتجز أخاه بنيامين، ليكشف معدنهم، فاسترجع بعضهم ذاكرة الجريمة الأولى.
فقال كبيرهم، ذاك الذي رفض قتل يوسف يومًا:
"فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي" (يوسف: 80)
ولم يرجع معهم، خجلًا من تكرار الفشل.
أما يعقوب عليه السلام، فلم يُطفئ الحزن قلبه، ولم يُطفئ الإيمان روحه. فقال في قمة فقده:
"فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا" (يوسف: 83)
ثم أضاف بثقة النبوة:
"إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ"
فبكى حتى فقد بصره. لكن نور البصيرة كان أقوى من نور العين. ولما أرسل يوسف قميصه، فاحت رائحة الإيمان من بعيد، وقال يعقوب:
"إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ" (يوسف: 94)
فارتدّ إليه بصره، وارتدت إليه روحه، حين اجتمع الشمل، وسجدت الشمس والقمر والأحد عشر كوكبًا على أرض مصر.
7. الرؤيا... من الحلم إلى الحقيقة
إنها الرؤيا التي بدأت بها القصة، واختتمت بتأويلها.
قال يوسف لأبيه بعد أن انتهى كل شيء:
"يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا" (يوسف: 100)
وهكذا تجلّى المشروع الإلهي: من رؤيا صبيّ، إلى تمكين نبيّ، إلى لمّ شمل أمة.
لكن الحكاية لم تنتهِ.
لقد وُضعت بذور الصراع في نفوس إخوته، وزُرع التنافس بدل التعاون، وارتُكبت أولى الخيانات ضد حامل الرسالة.
وهنا، بدأ الإرث السام الذي سيحمله أحفادهم لاحقًا:
الشك، الغيرة، نقض العهد، والإيمان بالحق مع سوء الفعل.
8. الجُبّ... أول هاوية في طريق الخلاص
لم يكن صراع يوسف مع إخوته مجرد غيرة أخوية، بل كان أول تجلٍّ لصراع أكبر وأعمق: صراع بني إسرائيل مع النبوة حين تأتي من بينهم، لا عليهم.
لقد اختار الله يوسف، فأرادوا هم أن يختاروا لأنفسهم.
أرادوا أن يقرّروا من يُقرَّب، ومن يُبعد، ومن يُلقى في الجُبّ.
هكذا بدأت الحكاية: خيانة داخل البيت النبوي، وادعاء محبة يعقوب، والتآمر على من اختاره الله.
وهكذا سيتكرر هذا المشهد، بأشكال مختلفة، مع كل نبيّ يأتي بعد يوسف: موسى، داوود، زكريا، يحيى، وعيسى.
الجبّ الأول كان جسديًا، لكن الجبّ الأكبر سيكون روحيًا: غرقًا في الكفر، والتيه، والتحريف.
لكن العجيب أن البداية كانت بنور... رؤيا، والبشرى كانت واضحة:
"إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين"
ورغم أن الطريق مرّ عبر الجبّ، والسجن، والدم الكاذب، والدمع الصادق،
إلا أن النهاية كانت تحقيقًا للوعد، وترسيخًا للثقة أن ما كان من الله فهو كائن، ولو بعد حين.
وفي قلب هذا كله، يقف يعقوب النبيّ رمزًا للإيمان وسط العمى، ولليقين في وسط الظلمة.
لم ييأس، ولم يسقط، ولم يتّهم ربه، بل قال:
"فالله خير حافظًا، وهو أرحم الراحمين."
وهكذا، انتهى المشهد الأول من دراما النبوّة،
بنكسة داخلية، وانتصار إلهي.
وغابت القافلة، لكن الرسالة بقيت، لتُحمل بعد قرون، على يد موسى،
في تيهٍ جديد... وغضب جديد.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.