رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأربعاء 9 يوليو 2025 6:16 م توقيت القاهرة

حين تُصبح الذكرى وطنًا والحنين مقبرة.. بقلم د/ سماح عزازي

على عتبة الغياب... حيث يبدأ الوجع
يقولون إن الحياة رحلة قصيرة، لكنهم لا يخبروننا أن معظم هذه الرحلة تُقضى في محطات الفقد، وبين حقائب الوداع. لا أحد يُخبرك أن الذين تحبهم، أولئك الذين تظنهم ثابتين كالجبل في حياتك، سيتحولون يومًا إلى ذاكرة... إلى ظلّ على الحائط، إلى صوتٍ يتردّد في أذنك حين يخلو المكان، إلى صورةٍ باهتة داخل إطار، أو رسالة نصية صامتة على شاشة هاتفٍ أطفأه الغياب.
الحياة يا سادة، ليست كما يُصوّرها العابرون في لحظات الفرح. الحياة وجهٌ آخر، أكثر قسوة، وأكثر صدقًا... وجه الغياب، حين يفترسك الصمت، حين تعود إلى بيتك فلا تجد الصوت الذي اعتدت أن يسبقك، ولا الوجه الذي كان يفتح لك الأبواب قبل أن تطرقها. تبدأ حينها رحلة أخرى، رحلةٌ لا مواعيد لها، ولا خرائط... رحلة التعايش مع الفراغ.
ما أقسى أن تُصبح الذاكرة مسرحًا لحياة لم تَعُد موجودة... أن تُفتّش في زوايا الأيام عن ضحكة، عن عطر، عن كلمة، عن لمسة... فلا تجد إلا صدى بعيدًا، يردده قلبك كلما حاول أن يصدّق أن الذي كان... قد صار كان.
في هذا العالم، لا يُعلّموننا كيف نُحبّ دون أن نخاف الفقد، ولا كيف نودّع دون أن ينكسر شيء فينا. يمضي الناس، ونحن نظلّ هنا... نُرمّم ما تبقى من قلوبنا، ونتظاهر أن الأمور بخير، وأننا قادرون على المضيّ، رغم أن كل شيءٍ فينا ينزف دون صوت.
هكذا... تبدأ الحكاية: وجوهٌ كانت تسكننا، رحلت. وأرواحٌ كانت تضيء عتمتنا، انطفأت. ولم يبقَ سوى نحن... نحن الذين نكتب عنهم، ونبكيهم في السر، ونسير بأقدامٍ ثقيلة فوق جراحنا نحو المجهول.
في هذا العالم، لا شيء يُوجِع الروح مثل الفقد. لا شيء يشرخ القلب مثل أن تمتد يد القدر لتنتزع منك وجهًا أحببته، وصوتًا اعتدت أن تستند عليه، ودفئًا كان ملاذك حين يبرد الكون. كل ألفاظ الوداع مُرَّة... مرة كالحزن، كالغصة التي تعبر الحلق ولا تنزل، كدمعةٍ محتجزة في مآقي الذاكرة، تخشى أن تنسكب فتفضح هشاشتنا أمام الحياة.
الموت... تلك الكلمة التي تتكرر في نشرات الأخبار، وعلى أفواه الناس، وفي صلوات الخائفين، لكنها في الحقيقة ليست كلمة، بل زلزالٌ صامت، يُعيد ترتيب خرائط الروح، يُحدث شقوقًا لا تُرمَّم، ويتركنا أمام سؤال لا إجابة له: لماذا تُسرَق الأرواح؟ لماذا يُنتزع الأحبة كأنهم لم يكونوا يومًا جزءًا من هذا الهواء؟
الشوق... آه من الشوق، يا لثقل هذا الضيف حين يحلّ، ويا لبطشه حين يستقر في القلب. هو ليس مجرّد حنين، بل عاصفة تسكن الأضلاع، تُقلّب دفاتر الذكريات صفحة صفحة، تُفتّش عن الضحكات، عن لمسات الأيدي، عن نظرات العيون التي باتت في عالمٍ لا نراه، ولكننا نحسه، ونكاد نلمسه بأطراف الذاكرة.
ويا للمفارقة... حتى الذين لا يموتون، يسرقهم الزمن. كم من حيٍّ يمشي بيننا بجسدٍ متعب، لكنّ قلبه مات حين ابتعد الذين أحبهم؟ كم من روحٍ تنزف، لأن الفراق لم يكن موتًا، بل غيابًا أطول من أن يُحتمل، وأقسى من أن يُسمّى حياة؟
كل شيءٍ يسرق الإنسان من الإنسان... مُرّ.
الفراق حين ينقضُّ على العشاق، يُحوّل قناديل الأمل إلى رماد.
الهجر حين يغرس أنيابه، يترك في القلب فجوة لا يسدها ضوء.
حتى الصمت، حين يُصبح بديلاً للكلام، يغدو خنجرًا مغموسًا بالخذلان.
الحياة يا سادة، تُدرِّبنا منذ اللحظة الأولى على الخسارة، تُلقِّننا دروس الوداع ونحن بعدُ صغار. نودّع الألعاب حين نكبر، نودّع الأصدقاء حين تفرّقنا الطرق، نودّع الأحلام حين تُهشمها صخور الواقع، ثم نودّع وجوهًا، وأسماءً، وأرواحًا، كانت ذات يوم وطنًا لنا.
كم من أمٍّ تُمسك بصورة ابنها الشهيد، تُقبِّلها كل صباح، تُحادثها كأن فيها نبضًا، وتُخبّئ دموعها تحت وسادتها كي لا يراها أحد.
وكم من أبٍ يجلس أمام بابٍ لم يُفتح منذ أن غادره من كان يُناديه "بابا"، يُحدّق في الفراغ، علّ العائد يعود، وعلّ الصوت الذي انقطع... يتّصل.
وكم من حبيبة تُخاطب هاتفًا صامتًا، تقرأ آخر رسالة، وتحفظها كما يحفظ المؤمن دعاءه في السجود الأخير.
نعم، كل ألفاظ الوداع مُرّة... "إلى اللقاء" تُشبه الكذبة البيضاء التي نقولها لنهرب من اعتراف "لن أراك ثانية".
و"مع السلامة" تبدو خفيفة على اللسان، لكنها ثقيلة على القلب حين لا تأتي بعدها أي سلامة.
أما "وداعًا"، فهي الجلاد... الكلمة التي لا تقال إلا حين نعرف يقينًا أن شيئًا انكسر، وأن العودة حلمٌ مستحيل.
حتى الذين يتظاهرون بالقوة، يحملون في أعماقهم مقبرة صغيرة، يدفنون فيها أسماء من رحلوا، وذكريات من غابوا، وخيبات من خذلوهم، ويمشون بين الناس وعلى وجوههم ابتسامة من زجاج... هشّة... قابلة للانكسار عند أول ذكرى، أو أول مساء طويل.
ويا للمفارقة... لا أحد يعلّمنا كيف نعيش بعد الفقد.
لا كتاب يُرشدك كيف ترتّب أيامك حين يُنتزع منك من كان يملأها ضحكًا وكلامًا وحياة.
لا دليل يقول لك كيف تتنفس حين يغادر الهواء الذي كنت تستنشقه، ويتحول إلى غياب.
لكن رغم مرارة الفقد، ورغم أن كل شيءٍ يسرق الإنسان من الإنسان مرّ... نعيش.
نُلملم شظايانا، نُعيد لصق قلوبنا بالانتظار، ونزرع في أطراف الذاكرة شجرة أمل، نحتمي تحت ظلها من وجع الأيام.
نُدرك أن الزمن لا يُشفي، لكنه يُدرّبنا على أن نحمل أوجاعنا كما يحمل المسافر حقيبة لا تفارقه.
ربما نحن لا نُشفى أبدًا، لكننا نتعلم كيف نُخفي الجرح تحت ابتسامة، وكيف نصنع من بقايا الذكريات حياة، ومن الشوق صلاة، ومن الغياب حضورًا لا يُغادرنا أبدًا.
لأن الغياب لا يموت... يبقى وجعًا ساكنًا فينا
ورغم كل شيء، نمضي... لا لأن الجراح تُشفى، بل لأننا اعتدنا أن نحملها معنا كجزءٍ منّا. نتعلّم أن نضحك وفي قلوبنا بكاء، أن نُجالس الأحياء وقلوبنا مشدودة إلى الذين رحلوا، أن نحتفل بأعيادٍ ناقصة، وأن نُشعل شموعًا تعرف جيدًا أن الضوء لا يكفي وحده ليهزم العتمة.
يا من رحلتم... لسنا بخير من بعدكم، ولم نعد كما كنّا. تركتم فينا مساحات خاوية لا يملؤها أحد، وندوبًا لا تُرى لكنها تنزف كل يوم. تركتم مقاعدكم في قلوبنا شاغرة، لا يجلس عليها أحد، ولا يجرؤ عليها الزمن.
يا لهذا القلب... كيف ينجو في عالمٍ يتساقط فيه الناس كأوراق الخريف؟ كيف يواصل النبض وهو يحمل على ظهره مقبرة من الذكريات؟ كيف لا يموت ونحن ندفن فيه كل يوم حلمًا، أو ضحكة، أو إنسانًا كان يومًا جزءًا من حياتنا؟
لكن رغم كل هذا، نحن أبناءُ الحياة، وأبناءُ الفقد. نتقن لعبة التظاهر، ونُجيد رسم الابتسامة فوق وجوهٍ أنهكها الغياب. نحمل حقائب ممتلئة بأسماء من أحببناهم، ونمضي... لا نملك إلا أن نمضي.
لأن الحياة لا تنتظر الحزانى، ولأن الذين رحلوا لا يريدون لنا أن نبقى في مقبرة الذكرى وحدنا، نختار أن نُكمل... أن نحيا لهم، وبهم، ومن أجلهم. نُشعل شموع الذكرى، ونُردّد في كل مساء:
"كل شيءٍ يسرق الإنسان من الإنسان... مُرّ، لكن الحب لا يموت، والذاكرة لا تموت، ومن أحببناهم... لا يموتون في قلوبنا أبدًا."

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
5 + 15 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.