رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

السبت 19 أبريل 2025 8:31 م توقيت القاهرة

بني إسرائيل... من النبوة إلى الاحتلال

بقلم د/سماح عزازي

القدس... المدينة التي لا تهدأ
لم تكن القدس يومًا مجرد مدينة عادية، بل كانت على مرّ العصور نقطة التقاء وصراع، تجتمع فيها النبوّة والدم، ويتقاطع فيها التاريخ بالعقيدة، وتتصارع فوق ترابها أطماع الأمم وجراح الأنبياء. فيها سكن داوود وسليمان، وفيها بكى المسيح على أطلال الهيكل، ومنها عُرج بمحمد إلى السموات العُلا. هي مدينة الأنبياء، لكنها أيضًا مدينة الجراح، التي ما فتئت تتكرر في مشاهد دامية عبر التاريخ.

ولم يكن عجيبًا أن تكون القدس مركزًا للحروب الصليبية، تلك الحملات التي رفعت الصليب شعارًا، وسالت على أطرافه دماء لا حصر لها. ولئن كانت في ظاهرها حروبًا دينية، فإنها في باطنها لم تكن إلا مشاريع استعمارية مبكرة، تستند إلى مبررات دينية زائفة لخدمة أهداف اقتصادية وسياسية، تسعى لتوسيع نفوذ الغرب في الشرق الإسلامي، وتطويق العالم العربي جغرافيًا وثقافيًا.

في القدس، حيث تعانق السماء الأرض، ظلّت أرض الأنبياء بوصلة أطماع الشرق والغرب، ومحور صراع يتجاوز حدود الجغرافيا إلى عمق العقيدة والتاريخ. ولم يكن مشهد الحروب الصليبية إلا امتدادًا لهذا الصراع المتجذر، حيث تلاقى الحقد الديني بالاستعمار السياسي، فكان لليـ، هود – كالعادة – دور خفي بين تقاطعات المصالح، وشرارة تتسلل بين نيران المعارك، توظف الدين في سبيل الخلاص المزعوم، والعودة المنتظرة.

ولفهم هذه المرحلة المفصلية من التاريخ، لا بد أن نعود إلى ما قبل سقوط القدس، إلى زمن الخلافة الراشدة، حين دخلها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – دخول الفاتحين المتواضعين، لا المنتقمين. دخلها بلا سيف ولا دم، بل بعهد أمان خطّه التاريخ بمداد من نور.

الفتح الراشدي للقدس… حين دخلها عمر بلا قطرة دم
فتحت القدس في عهد عمر بن الخطاب العدل قبل السيف
في عام 15هـ، وبعد حصار طويل للقدس (إيلياء) من قِبل جيوش المسلمين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد،كان فتح القدس في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 15 هـ / 636 م، حدثًا فارقًا في تاريخ المدينة، إذ تم بلا قتال يُذكر، بل بمشهد حضاري قلّ نظيره. فقد اشترط البطريرك صفرونيوس، بطريرك القدس آنذاك، ألا يسلم مفاتيح المدينة إلا للخليفة نفسه، فخرج عمر من المدينة المنورة إلى القدس في رحلة تجلّت فيها معاني الزهد والعدل والرحمة، حتى قيل إنه دخلها على دابة يتناوب الركوب مع خادمه.

عندما دخل عمر القدس، لم يُدنِّس كنيسة، ولم يُهجِّر نصرانيًّا، بل أمّن أهلها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وكتب معهم "العهدة العمرية"، ذلك النص الإنساني النبيل الذي قال فيه: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من شيء من أملاكهم..."، وكان ذلك بمثابة أول وثيقة تضمن حرية العقيدة لأهل الكتاب في المدينة.

رفض عمر الصلاة داخل كنيسة القيامة حتى لا تتحول إلى مسجد، وصلى خارجها، فبُني في المكان مسجد لاحقًا سُمّي "مسجد عمر". لقد أعاد عمر القدس إلى الحضن التوحيدي، ولكن دون سيف ولا صليب، بل بعدل ورحمة قلّ نظيرهما في تاريخ الفتوحات، وهو ما دفع كثيرًا من المؤرخين الغربيين، مثل المؤرخ الإنجليزي "توماس أرنولد"، إلى الإشادة بسلوك المسلمين، قائلًا: "لقد عامل المسلمون النصارى بالمدينة معاملة حسنة منذ الفتح الإسلامي، ولم يُجبروا أحدًا على ترك دينه، بل تركوهم أحرارًا في إقامة شعائرهم."

دخل عمر القدس وكتب العهدة العمرية، التي ضمنت لأهلها من النصارى سلامهم على أنفسهم وكنائسهم، وقال عبارته الخالدة: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله." لقد كانت القدس حينها مدينة للتسامح، يحكمها الإسلام بعدل، وتحيا فيها الأديان بحرية.

يقول المؤرخ الإنجليزي توم هولاند في كتابه "In the Shadow of the Sword":
"لم يكن دخول عمر إلى القدس كدخول الفاتحين من قبله. كان دخولًا أخلاقيًا يرسّخ قواعد التعايش بين المسلمين وأهل الكتاب في زمن لم تعرف فيه أوروبا سوى الاضطهاد الديني."

لكن هذا المشهد سرعان ما تغير.

اليـ، هود في شتاتهم… والقدس في عين الأطماع
بعد دمار الهيكل الثاني على يد الرومان عام 70م، تفرّق اليـ، هود في الأرض، وبدأ شتاتهم الكبير. مُنعوا من دخول القدس قرونًا طويلة، وعاشوا في عزلة دينية وسياسية، ولكن حلم العودة ظل متقدًا في تلمودهم، واستقر في لا وعيهم الديني أن المخلّص (المسيح الموعود عندهم) لن يأتي إلا إذا عادوا إلى صـ، هيون، وأعادوا بناء الهيكل الثالث.

في هذه المرحلة، كان اليـ، هود أداة أكثر منهم فاعلًا. فقد أحسنوا دائمًا التسلل إلى مناطق النفوذ، ومهادنة القوى الكبرى، انتظارًا للحظة التي يمكن أن تُستغل فيها أي فوضى تاريخية لتحقيق حلم العودة.

الحروب الصليبية الدين حين يلبس عباءة الأطماع
في أواخر القرن الحادي عشر، أطلق البابا أوربان الثاني نداءه الشهير في مجمع كليرمونت عام 1095م، داعيًا أمراء أوروبا لحمل السلاح واستعادة "الأراضي المقدسة" من المسلمين. ولكن الحروب الصليبية لم تكن فقط دينية، بل كانت، كما يؤكد المؤرخ البريطاني ستيفن رنسيمان، "حركة استعمارية مقنعة بالدين، جاءت لتفريغ أوروبا من فائض المقاتلين والفقر، وبحثًا عن الثروات والمقدسات."

وفي عام 1099م، وقعت الفاجعة سقطت القدس في يد الصليبيين، بعد مجازر مروعة راح ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين واليـ، هود والمسيحيين الشرقيين. وقد كتب المؤرخ الصليبي ريمون داجيل شاهد العيان: "كان دم القتلى يصل إلى رُكب الخيول في المسجد الأقصى."

وعلى عكس ما هو شائع، فإن الصليبيين لم يميزوا بين مسلم ويـ، هودي، بل كان اليـ، هود يُحرقون أحيانًا داخل معابدهم، كما حدث في القدس. ومع ذلك، بدأ بعض يـ، هود أوروبا – خاصة من السفارديم – يرون في الحروب الصليبية فرصة لتقريب ساعة "العودة" التي طال انتظارها.

صلاح الدين الأيوبي السيف والرحمة معًا
جاء صلاح الدين الأيوبي كفارس من زمن الأنبياء. وحّد الجبهة الإسلامية بعد أن مزّقتها الانقسامات، وفتح القدس في عام 1187م، بعد معركة حطين الشهيرة. ومع أن المدينة سقطت في يد الصليبيين بمجزرة، إلا أن صلاح الدين فتحها برحمة. لم يقتل ولم ينهب، بل منح الأمان لسكانها، وسمح للمسيحيين بالمغادرة مقابل فدية رمزية، وأعاد اليـ، هود للعيش تحت ظل الدولة الإسلامية.

أعاد صلاح الدين الأقصى إلى وظيفته كمسجد، ونظف قبة الصخرة من آثار التنجيس، وفتح المدينة لكل من أراد أن يعبد الله دون إكراه. كان دخوله للقدس ليس فقط نصرًا عسكريًا، بل نصرًا أخلاقيًا وروحيًا، ردّ الاعتبار لأمة الإسلام، وأعاد للمدينة هويتها المشرّفة.

قال عنه المؤرخ اليـ، هودي موشيه غيل: "صلاح الدين لم يضطهد اليـ، هود، بل كان يُنظر إليه كحامٍ لهم في زمن الاضطهاد الصليبي." وكان لذلك أثر بالغ في ترسيخ صورة الإسلام كدين عدل حتى في لحظات النصر.

يقول المؤرخ البريطاني ستانلي لين بول في كتابه "The Story of the Moors in Spain":
"لم يشهد العالم فارسًا نبيلاً كصلاح الدين. دخل القدس فاتحًا لا منتقمًا، وعدله كان مضرب المثل، حتى عند أعدائه."

اليـ، هود بين الطرفين انتهاز لا عقيدة
ظل اليـ، هود خلال الحروب الصليبية يلعبون دورًا مزدوجًا؛ فهم تارة يهادنون المسلمين، وتارة يتقربون من الصليبيين. وفي كل الأحوال، كانوا يجيدون التموضع خلف القوى الأقوى، ويستثمرون في الحرب كما يستثمرون في السلم. وظهر في تلك الفترة مفهوم "الانتظار الفعّال" لدى الجماعات التلمودية، أي العمل السياسي والمالي لتهيئة الأرضية لعودة يهودية كبرى.

اللافت أن اليـ، هود، الذين طالما وُصفوا بأنهم ضحايا في أوروبا، لم يكن لهم في القدس وجود يذكر خلال العهد الصليبي. بل إنهم تعرضوا لمجازر على يد الصليبيين أثناء عبورهم أوروبا، واعتُبروا أعداءً للمسيح لا يختلفون عن المسلمين في نظر الكنيسة. ومع ذلك، فإن بعض الفئات اليـ، هودية لاحقًا، خاصة في الأندلس وأوروبا الشرقية، ستبدأ في قراءة مشهد الحروب الصليبية بعين مختلفة عين ترى أن القدس لن تعود إليهم إلا من خلال التحالف مع الأقوياء، ولو كانوا قتلتهم بالأمس.

سيكون هذا الإدراك هو نواة الفكرة الصـ، هيونية التي ستنبثق لاحقًا، وهي أن إقامة موطئ قدم في فلسـ، طين يحتاج إلى راعٍ قوي، تمامًا كما سعى اليـ، هود للحصول على حماية فارس ضد بابل، ثم حماية روما ضد اليونان، والآن حماية أوروبا ضد المسلمين.

وقد أشار المؤرخ الأمريكي نورمان كانتور إلى أن "الحروب الصليبية أعادت إحياء الحس القومي الديني لدى اليـ، هود، ودفعت بعضهم للتفكير في استغلال الصراع الإسلامي المسيحي لصالح مشروع العودة لفلسـ، طين."

نفي متكرر... وخلاص منتظر
رغم ما تعرّض له اليـ، هود من نفي واضطهاد، إلا أن فكر "العودة" ظل حاضرًا بقوة، لكنه اتخذ منحى أكثر سرّية بعد الحروب الصليبية، إذ بدأ التمهيد العقائدي والرمزي لفكرة "الهيكل الثالث" في أدبيات اليـ، هود. ومن هنا، يمكن القول إن الحروب الصليبية لم تكن معركة دينية فقط، بل كانت أيضًا منعطفًا في الوعي اليـ، هودي باتجاه "الخلاص"، وتهيئة للمشهد الذي سيتكرر في العصر الحديث مع وعد بلفور واحتلال فلسـ، طين.

القدس بين السيف والدعاء
القدس، هذه المدينة التي تهفو إليها أرواح المؤمنين، كانت وما زالت مسرحًا لصراع لا ينتهي. سقطت بالسيف، وعادت بالدعاء والجهاد، وتاهت حين تخلى عنها أهلها، ونهضت حين عادوا لها رجالًا كـعمر وصلاح الدين.

لكن السؤال يبقى: ما الذي تغيّر؟
هل تغيّرت القدس؟ أم تغيّرنا نحن؟
وهل استوعبنا أن من يفرّط في التاريخ، يدفع ثمنه حاضرًا ومستقبلًا؟

بين صليب وصـ، هيونية... لم تنتهِ الحرب
إن الحروب الصليبية لم تنتهِ حقًا، بل تغيّرت وجوهها. فبعد أن كانت الجيوش تأتي بالسفن من مرسيليا وجنوة، أصبحت تأتي بالطائرات من واشنطن ولندن. وبعد أن كان الجنود يحملون الصليب على صدورهم، صاروا يرفعون شعارات الحداثة وحقوق الإنسان، بينما يزرعون الموت والاحتلال في ذات الأرض.

القدس ما زالت هي القدس، والعدو ما زال هو العدو، وإن تغيّرت راياته. ووعي الأمة بتاريخها هو أول خطوة نحو النصر الحقيقي. لقد كانت القدس دائمًا محكًا حضاريًا، من دخلها بعدل عمر بقي فيها، ومن دخلها بسيف الحقد خرج منها يجر أذيال الخزي.

قال الله تعالى: "فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفًا"، وها هم قد جاءوا... فهل نحن مستعدون؟

المصادر والمراجع:
العهدة العمرية، تاريخ الطبري، ج3.

Steven Runciman, "A History of the Crusades", Vol. I–III.

Moshe Gil, "A History of Palestine, 634–1099".

Norman Cantor, "The Sacred Chain: The History of the Jews".
ريمون داجيل، "تاريخ سقوط القدس".

ابن الأثير، الكامل في التاريخ.

ترقّبوا في الجزء السادس من السلسلة:
سنسير في دروب القرن العشرين، بين حلم تيودور هرتزل، ومكر بريطانيا، وقرار الانتداب، وصولًا إلى زرع الكيان الصـ، هيوني في قلب فلسـ، طين، وتشريد شعبها، وسط صمتٍ عالمي، وتواطؤ إقليمي.

"من وعد بلفور إلى قيام الكيان الصـ، هيوني"
كيف اجتمعت الصـ، هيونية والاستعمار، ليصنعا نكبة العرب وفلسـ، طين؟
كيف تم زرع كيان بقوة السلاح والخداع؟
وهل كان وعد بلفور وعدًا إلهيًا، أم مؤامرة سياسية؟

حيث نروي كيف التقت الأطماع الاستعمارية بالأحلام الدينية، وكيف خُطط لتأسيس إسـ، رائيل على أنقاض شعب، وتاريخ، وأرض مقدّسة.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.