رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأربعاء 13 أغسطس 2025 10:26 ص توقيت القاهرة

السلسلة الادبية في حضرة الغياب… كل شيء ينكسر المقال الثامن حين يصمت النداء وتبقى الروح وحيدة

بقلم /سماح عزازي 

في رحاب الحياة، هناك لحظات تُثقل النفس، تُرهق القلب، وتُسلب الروح ألوانها وأصواتها، لحظات يتحول فيها النداء الذي طالما أضاء دروبنا إلى صمتٍ موحش، يُحاصرنا ويُخيم على كل ما حولنا. حين يغيب صوت من كنا نعشقهم، لا تغيب فقط الكلمات، بل يغيب معها كل شيء — الدفء، الأمان، معنى الوجود. ذلك الصمت العميق ليس مجرد غياب صوت، بل هو انقطاع لنغمة كانت تملأ الفضاء حياةً، وترسم لقلوبنا معنى التعلق والبقاء. 

في تلك اللحظة التي يصمت فيها النداء، لا نبقى سوى نحن وأرواحنا المكسورة، نحاول أن نجد طريقًا وسط فراغ قاتل، نحاول أن نتلمس بصيص نور في ظلمة الوحدة التي باتت تلتهمنا شيئًا فشيئًا. هنا تبدأ قصة صمود الروح، رحلة البحث عن ذاتها من جديد، محاولة لفهم كيف يمكن لقلبٍ وحيد أن يستعيد نغمة الحياة بعد طول الصمت.

هناك لحظة غريبة، ثقيلة، لا صوت فيها سوى دويّ الصمت، كأن العالم قد انسحب فجأة من مدارك، وتركك واقفًا على حافة الفراغ. لحظة يتوقف فيها كل شيء، حتى النداء الذي كنت تظنه أبديًّا، يخفت شيئًا فشيئًا حتى يغيب، فلا يبقى سوى صدى بعيد يتهشم في أروقة الذاكرة.

حين يصمت النداء، تشعر أن قلبك صار غرفة فارغة، كل مقعد فيها مقلوب، وكل نافذة موصدة، والريح تعبرها بلا إذن. الروح في تلك اللحظة لا تعرف وجهتها، كأنها طائر أرهقه التحليق، ولم يجد شجرة تؤويه، فيسقط منهكًا على أرضٍ غريبة لا تعرف ملامحها.

الوحدة هنا ليست غياب الأشخاص فحسب، بل غياب المعنى، غياب الدفء، غياب ذلك الخيط الخفي الذي كان يشدك نحو الحياة. تصبح الكلمات بلا طعم، والألوان بلا روح، والأيام مجرد تتابع ميكانيكي لساعات ثقيلة. كل ما حولك يبدو كما هو، لكن داخلك… هناك زلزال صامت أحدث شروخًا في جدران قلبك لا يراها أحد.

إن أقسى ما في الغياب ليس الصمت الذي يخلّفه، بل الفراغ الذي يزرعه في روحك. فالصوت حين يخفت، لا يرحل وحده، بل يأخذ معه شيئًا منك، يسرق ملامحك القديمة، ويتركك نسخة باهتة لا تعترف بها المرآة. وتدرك فجأة أنك كنت تتكئ على ذلك النداء دون وعي، وأنه كان حبل النجاة الذي يمنعك من الغرق في محيط الحياة البارد.

وفي لحظة الإدراك، تبدأ الأسئلة في الانهيار فوقك كسقف قديم لم يتحمل ثقل المطر: أين ذهب كل ذلك الضوء؟ كيف تبددت الدفء من بين أصابعك؟ ولماذا حين نحتاج النداء أكثر، يكون قد رحل؟

لكن، وبرغم كل الانكسار، تظل الروح تحمل في أعماقها جمرة صغيرة، جمرة تشبه وعدًا غامضًا بأن الحياة لن تبقى على هذه الوتيرة للأبد. قد يكون الصمت ثقيلًا، لكن داخله قد يتشكل نداء جديد، يخرج من أعماقك أنت هذه المرة، لا من الخارج. وربما تدرك أن أقوى النداءات ليست تلك التي تأتيك من الآخرين، بل التي تولد في قلبك حين تكتشف أنك قادر على احتضان وحدتك دون أن تهلك.

فالغياب امتحان، والصمت ساحة مواجهة مع الذات. وإذا استطعت أن تعبر هذه الساحة دون أن تنكسر تمامًا، فإنك ستكتشف أن الروح — حتى وهي وحيدة — تستطيع أن تجد لنفسها موسيقى أخرى، وألوانًا أخرى، ونداءً آخر لا يصمت أبدًا.

لكن الوحدة الحقيقية تبدأ حين تكتشف أن العالم من حولك لم يتوقف، وأن الآخرين ما زالوا يضحكون ويتحدثون ويخططون لغدهم، بينما أنت ما زلت عالقًا في اللحظة التي انقطع فيها النداء. تشعر وكأنك تسير في مدينة مأهولة، لكنك وحدك الشفاف الذي لا يراه أحد. تمشي بينهم كظلٍ لا يملك إلا أن يراقب الحياة وهي تتدفق بعيدًا عنه، عاجزًا عن اللحاق بها.

في مثل تلك اللحظات، يصبح الليل حليفك الوحيد. الليل الذي يمنحك مساحة لتواجه نفسك، لتسمع صرخات قلبك دون أن يقطعها ضجيج النهار. الليل الذي يتحول فيه القمر إلى صديق صامت، يراقبك من بعيد وكأنه يعرف كل شيء، لكنه لا يتدخل. هناك، تحت ستار الظلام، تتسلل الذكريات مثل أشباح مألوفة، تجلس معك على طاولة الحنين، وتفتح أمامك ألبوم الصور الذي تحاول أن تغلقه عبثًا.

وتكتشف أن الصور ليست ورقًا وألوانًا فحسب، بل هي بيوت صغيرة تسكنها أرواح من رحلوا. تفتح صورة فتشم رائحة عطرٍ قديم، أو تسمع ضحكة دافئة كانت تملأ الأرجاء. الصور تتحول إلى نوافذ، تطل منها على عالم لم يعد موجودًا إلا في داخلك، ومع كل نافذة تنفتح، يزداد شعورك بالفراغ، لكنك في الوقت نفسه تتمسك بها، لأنك تخشى أن تغلقها فتفقد الطريق المؤدي إليهم نهائيًا.

ومع مرور الوقت، تبدأ ملامح الصمت في التغير. لم يعد صمتًا خانقًا كما كان في البداية، بل صار مساحة تتعلم فيها كيف تنصت إلى نفسك. تدرك أن الوحدة ليست دائمًا عدوًا، وأن الغياب قد يكون مدرسة قاسية تعلمك أن تبني دفئك من الداخل. تبدأ بتقدير اللحظات الصغيرة: فنجان قهوة تشربه ببطء، أغنية قديمة تشعل ذكرى حلوة، رسالة لم تُرسل لكنها ظلت تحفظ في قلبك ما كنت تخشاه من النسيان.

حينها فقط، تدرك أن النداء الذي صمت، لم يمت تمامًا… بل انتقل إلى مكان آخر، مكان لا تصل إليه الأصوات المعتادة، لكنه قريب بما يكفي لتشعر به في قلبك. يصبح الغياب لغة جديدة، والوحدة مرآة ترى فيها ملامحك الحقيقية، والصمت كتابًا تقرؤه وحدك، لتعرف في النهاية أنك أقوى مما كنت تظن، وأن الروح — مهما خلت من الآخرين — تستطيع أن تخلق لنفسها حياة.

ومع مرور الوقت، حين نواجه صمت النداء، ندرك أننا لا ننتمي إلى الفراغ، بل إلى عمق الذات الذي يزرع فيه الغياب بذور الوعي والحنين والصلابة. الروح التي تألمت، والتي وجدت نفسها وحيدة، تبدأ في نسج نداء جديد لا يشبه ما كان، نداء ينبع من الداخل، ينبعث من أعماقها، يتسامى فوق الألم والافتقاد، ليعلن أن الحياة لا تنتهي بانقطاع الأصوات، بل تستمر في صمتٍ يحمل بين طياته موسيقى مختلفة.

 إنها موسيقى القوة، الموسيقى التي لا تحتاج إلى جمهور، ولا إلى تصفيق، بل إلى استماع صادق لأنفسنا ولروحنا التي لم ولن تتركنا وحدنا حقًا. 

حين يصمت النداء، تصبح الوحدة ليست قيدًا بل حريةً، ليست نهاية بل بداية رحلة جديدة من اللقاء مع الذات، حيث تتعلم الروح كيف تُغني وحدها أجمل ألحان الصمود والمحبة. وهكذا، تبقى الروح وحيدة، لكنها ليست وحيدة حقًا، لأنها وجدت في صمت النداء مساحة لا تموت فيها الحياة، بل تولد فيها من جديد.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 11 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.