بقلم / سماح عزازي
لأن الغياب لا يختار لحظة الرحيل
في حياة كلٍّ منّا حكايات لم نكتب نهايتها بأيدينا،
وأبواب أُغلقت ونحن في منتصف عبورها،
وأحلام توقفت في محطاتها الأخيرة، لأن الذين حملونا في مركبهم قرروا – أو اضطُروا – إلى النزول قبل أن نصل.
الغياب لا يُحسن اختيار لحظة لطيفة لرحيله،
بل يختار أقسى الأوقات… منتصف الطريق.
حين تكون الأماني نصف مكتملة، والضحكات نصف عالقة
في الهواء، والوعود لا تزال دافئة على الشفاه.
يأتي كريح عاتية في نهار صيفي، يقتلع ظلالنا التي
استندنا إليها، ويتركنا عُراة أمام سؤال لا يفارقنا:
“كيف أكمل الطريق الذي بدأناه معًا… وحدي؟”
في تلك اللحظة، يتحوّل كل شيء إلى نصفه:
الحلم نصف حلم، البيت نصف بيت، والحياة نصف حياة.
لكن القلب؟
القلب يتحوّل إلى مساحة شاسعة من الحنين، يصرخ كل يوم في صمت:
"لقد كنتم هنا… فلماذا تركتمونا في منتصف الطريق؟"
لأن الرحيل لا يستأذن
هناك طرق بدأناها مع من نحبّ، لم نتخيل للحظة أنهم سيتركوننا في منتصفها. كانوا معنا خطوة بخطوة، نرسم معهم خرائط الأحلام، ونبني معهم بيوتًا من الكلام والضحكات،
ثم فجأة… خذلنا الغياب.
توقفت أقدامهم، بينما واصلنا نحن السير وحدنا،
نحمل على أكتافنا ثِقَل الحنين وأسئلة لا إجابات لها.
الغياب ليس موتًا فقط… إنه انكسار المفاجأة،
أن تستيقظ فتجد مكانهم خاليًا،
أن تلتفت ولا تلمح وجوههم،
أن تدرك أنهم تركوا لك النصف الأصعب من الرحلة: الرحلة وحدك.
منتصف الطريق أصعب من آخره
نظن دائمًا أن النهاية هي الأصعب، أن لحظة الفقد الأخيرة
هي التي تترك الوجع،
لكن الحقيقة أن منتصف الطريق هو الذي يفتك بنا.
أن تجد نفسك في منتصف حكاية كنت تُقسم أنها لن تنتهي،
في قلب وعدٍ كنت تظنه أبديًّا،
وفي حضن حلمٍ انهار نصفه… وبقي نصفه الآخر معلقًا في الهواء.
هناك وجع لا يقتله الموت، بل يُولده التوقّف المفاجئ للحياة التي كنا نعرفها.
أن يتركوك وأنت ما زلت تكتب، ما زلت تبني، ما زلت تحبّ.
يتركوك، فتجد نفسك أمام طرق مفتوحة، لكنك لا تعرف أين تمضي.
حين يصبح المكان أكبر من قلبك
الغياب يجعل الأماكن أكبر مما ينبغي.
الغرفة التي كانت تضيق بضحكاتكم،
تصبح فجأة واسعة كصحراء.
الكرسي الذي كان يحتضن حضورهم،
يصير أكثر قسوة من أي حجر.
حتى الطرقات التي كانت تعجّ بالخطوات،
تصبح ممتدة بلا نهاية… لأن من كانوا يختصرونها
بحبّهم لم يعودوا.
في منتصف الطريق، لا يكبر الحزن فقط… بل يكبر الصمت أيضًا.
صمت الأحاديث التي لم تكتمل، صمت العيون التي لم تودّع، وصمت القلوب التي لم تعرف كيف تقول:
"ابقوا… حتى نصل."
كيف نتعلّم المشي وحدنا؟
في لحظة ما، علينا أن نتوقف عن التحديق في أثر خطواتهم،
وأن نجرّب المشي وحدنا.
سيكون الأمر قاسيًا، ثقيلًا، كأنك تتعلّم التنفس لأول مرة بعد غرق طويل.
لكن الحياة لا تنتظر الحزانى، والوقت لا يُعيد من أخذهم الغياب.
نتعلم ببطء أن نحمل صورهم في قلوبنا كرفاق سفرٍ غير مرئيين،
أن نمضي ونحن نعرف أنهم لن يعودوا…
لكنهم يتركون فينا شيئًا يهمس عند كل خطوة:
"أكمل… لأجلنا."
الغياب يعلّمنا هشاشتنا
الغياب يكشف لنا أننا لسنا منيعين كما كنا نظن.
يُعلّمنا أننا مكسورون من الداخل أكثر مما نُظهر،
وأن الحنين قادر أن يُربكنا في منتصف يومٍ مزدحم،
بصوت، بعطر، بصورة عابرة تُعيدك لمنتصف الطريق الذي لم تُكمله.
نكتشف أننا نحمل في جيوبنا الصغيرة قلوبًا هشّة،
تتهشّم أمام كلمة، تنهار أمام اسم، وتبكي أمام ذكرى…
لكننا رغم ذلك نُواصل.
الحنين لا يتوقف عند محطات الغياب
في منتصف الطريق، نكتشف أن الحنين ليس موجة واحدة… بل موجات لا تنتهي.
تظن أنك تجاوزت الأمر، أنك تعلمت الحياة دونهم،
ثم تأتي لحظة صغيرة – أغنية قديمة، كوب قهوة، موعد عند الغروب –
فتعود الموجة أقوى مما كانت، وتُعيدك إلى اللحظة التي بدأ فيها الغياب.
وهكذا ندرك أن الغياب ليس حدثًا يقع مرة واحدة…
بل حالة دائمة نعيشها، نتعلّم كيف نتنفس خلالها،
لكننا لا ننجو منها تمامًا أبدًا.
لأننا لا نصل أبدًا بدونهم… لكننا نواصل
في النهاية، نعرف أننا لن نصل أبدًا كما كنا نحلم،
لن يكون الطريق كما تخيلناه معهم، ولن تكون الضحكات كما كانت حين كانوا إلى جوارنا.
لكننا نواصل… نواصل رغم التعب، رغم الصمت، رغم الغياب.
لأن الحياة لا تتوقف عند منتصف الطريق،
ولأن الذين رحلوا تركوا فينا وصية غير مكتوبة:
"أكملوا… حتى لو كان القلب مثقوبًا بالحنين."
نمضي ونحن نعلم أنهم ليسوا خلفنا،
لكنهم فينا… في خطواتنا، في دموعنا، في كل نبضة تقول:
"أكمل… فالحبّ الذي تركوه لن يخذلنا."
لأن الذين تركونا… لم يأخذوا كل شيء معهم
في النهاية، نكتشف أننا لم نكمل الطريق وحدنا تمامًا.
صحيح أنهم غابوا، لكن أثرهم بقي معنا، كعلامات مضيئة على حواف الدرب.
في كل خطوة، هناك ظلّ ضحكة من الماضي،
في كل استراحة، هناك ذكرى تربّت على أكتافنا،
وفي كل وجع، هناك حضور خفيّ يقول:
"أكمل… ولو كنت وحدك."
الغياب علّمنا أن منتصف الطريق ليس نهاية الرحلة،
بل بداية عهد جديد من المشي بحذر، والمضي رغم الجرح.
علّمنا أن الحبّ لا ينتهي بالرحيل، وأن من تركونا لم يأخذوا كل شيء معهم،
فهم تركوا لنا قلوبنا ممتلئة بهم،
تركوا فينا صوتهم، رائحتهم، وصاياهم غير المكتوبة…
وتركونا لنُكمل، لا لنقف.
وهكذا، نمضي ونحن نحملهم في أعماقنا،
نمشي ونحن نعرف أنهم لن يعودوا، لكنهم أيضًا لم يرحلوا أبدًا،
لأن الطريق الذي بدأ معهم، سيظل طريقهم وطريقنا،
حتى لو مشيناه بقدم واحدة، وقلب نصفه حنين… ونصفه وجع.
بقلم د/ سماح عزازي
"في منتصف الطريق، يُولد أصعب الحنين… لكنه الحنين الذي يجعلنا نستمر."
إضافة تعليق جديد