بقلم د/سماح عزازي
في زمن يُفترض أن يُكرَّم فيه المعلم وتُصان مكانته، نجد أنفسنا – بكل أسف – أمام مشهد مهين تتكرّر فصوله يوميًا داخل المدارس.
منذ متى أصبح المعلم الحلقة الأضعف؟
منذ متى صار يُهان أمام تلاميذه، ويُحاسب أمام أولياء أمورهم، وتُسلب منه أبسط حقوقه في الاحترام والتقدير؟
منذ متى أصبح المتهم الدائم حتى تثبت براءته، بينما كلمة وليّ الأمر هي الفصل، ولو كانت كذبًا وافتراءً؟
المعلم، حامل رسالة النور ومُربي الأجيال، بات اليوم هدفًا سهلاً للإهانة، مستباح الكرامة، متَّهَمًا دائمًا في موقف دفاع، في مواجهة لا منطقية مع وليّ الأمر، ووزارةٍ تبدو وكأنها قد استقالت طوعًا من واجبها الأصيل: حماية المعلم.
من المربي إلى المتَّهَم
لقد انقلبت الموازين واختلت القيم. نحن لا نواجه أزمة عابرة، بل مأساة حقيقية.
مأساة بدأت حين قررت وزارة التربية والتعليم – ويا للعجب – أن تضع كرامة المعلم على طاولة المساومات، وأتاحت لوليّ الأمر أن يدخل المدرسة لا كشريك تربوي، بل كقاضٍ وجلاد، يوبّخ ويصرخ، يهدد ويتوعد، وأحيانًا – نعم أحيانًا – يضرب، دون أن يجد من يقف للمعلم موقف الحامي والناصر.
المعلم لم يعد ذلك الرمز الذي يُوقَّر، بل صار موظفًا يخشى أن يرفع صوته داخل الفصل، أو يتخذ موقفًا تربويًا حازمًا، لأن الوزارة تتلقف أول شكوى – ولو كانت كيدية – لتبدأ مسرحية التحقيق والتوبيخ، وربما الخصم أو النقل التعسفي.
وكأن هذا المعلم لا حقوق له، ولا مكانة، ولا اعتبار!
أي عقلٍ تربوي يقبل أن يقف المعلم متَّهَمًا لمجرد "شكوى"؟
أي رسالة ننتظرها من نظامٍ لا يحمي من يُفترض أنه مربّي الأجيال؟
كيف نطلب منه أن يزرع القيم، وهو يُهان أمام طلابه، ويُجبر على الصمت، لأن "الشكوى من وليّ الأمر أهم من كرامتك"؟!
منذ متى أصبحت كلمة الطالب أو وليّ أمره دليلًا قاطعًا يدين المعلم قبل حتى أن يُسمع دفاعه؟
ألهذه الدرجة صار صوت "الزبون" أقوى من صوت "الرسالة"؟
وهل تحوّلت المدرسة إلى مصلحة خدمية تُجامل أولياء الأمور على حساب القيم والكرامة؟
الوزارة... الغائب الأكبر
اللوم لا يقع فقط على بعض أولياء الأمور الذين فقدوا احترامهم لقيمة التعليم، بل أولًا وأساسًا على وزارة التربية والتعليم التي فرّطت في كرامة المعلم، ووقفت موقف المتفرّج، بل المتواطئ، حين فتحت الأبواب لكل من هبّ ودبّ ليهين المعلم دون رادع.
لا توجد منظومة تعليمية محترمة في العالم تُعري معلميها بهذا الشكل.
لا توجد دولة تنهض بينما جنود المعرفة فيها محبطون، مهمّشون، بلا سند.
كيف نطالب المعلم بالتفاني، والإخلاص، والاحتواء، وهو يُعامل يوميًا كمُدان؟
كيف ننتظر منه أن يصنع جيلًا واعيًا، إذا لم يجد من يحميه حين يُهدد، وينصفه حين يُهان، ويقف معه حين يُظلم؟
التعليم بلا هيبة المعلم... عبث
كرامة المعلم ليست ترفًا، وليست مجاملة طبقية.
إنها ضرورة، وشرط أساسي لأي إصلاح تعليمي حقيقي.
حين يُهان المعلم، سينعكس ذلك على الطالب، وعلى المنهج، وعلى المجتمع كله.
الهيبة التي نزعت عن المعلم هي ما نراه اليوم مفقودًا في سلوكيات جيلٍ يتجرّأ على أساتذته، ويتمادى في التعدي عليهم، دون وازع أو رادع.
لقد رأينا معلمين يُضربون في فصولهم، يُهدَّدون بالسلاح، وتُنشر مقاطع إذلالهم على وسائل التواصل الاجتماعي، في مشاهد لا تُشبه مؤسسة تربوية، بل فوضى ما بعد الحرب.
ورغم هذا، لا زالت الوزارة تردد نغمتها المملة: "نحن مع الطالب ووليّ أمره"...!
ولأن الكلام عن إهانة المعلم لم يعد نظرًا مجردًا أو استنتاجًا مبالغًا فيه، فدعونا نفتح جرح الحقيقة، ونسرد ما يحدث – لا في الخيال – بل في قلب مدارسنا، حيث يُغتال الوقار وتُذبح الكرامة على مرأى ومسمع من الجميع.
وقائع من قلب المدارس: من يُحاكم من؟!
في إحدى المدارس الثانوية بنين العسكرية ... يقف المعلم في فصله، يؤدي واجبه بشرف، فيفاجأ بطالب ينهال عليه بالضرب، لا لأنه أساء، بل لأنه تجرأ على أن يُعلّم. وما كان من الإدارة إلا أن عاقبته بخصم خمسة أيام من راتبه، وكأن ما جرى كان شجارًا متكافئًا، لا اعتداءً آثمًا! أما الطالب؟ فأُحيل – بكل هدوء – إلى الأخصائي الاجتماعي "لتعديل السلوك"! هل وصل بنا الهوان أن نساوي بين اليد التي تُربّي، واليد التي تعتدي؟
وفي إحدي مدارس التعليم الاساسي المرحلة ابتدائية ... تسأل معلمةٌ طالبةً في الصف السادس عن كراسة مادتها وتقيماتها، فتجيب الطفلة بكل جرأة: "أنا مبجبش كراسات، لأني أصلاً مبجيش المدرسة!" تُحذرها المعلمة بلُطف، أن تكرار الغياب وعدم إحضار الكراسة سيُعرضها للعقاب التربوي وخصم درجات التقيمات والسلوك . فما كان من الأم – وليّة الأمر – إلا أن ثارت وهاجت، وقدمت شكوى تطالب فيها بنقل المعلمة من المدرسة فورًا! ويبدأ مسلسل الضغط: مسؤولون من الإدارة، وأطراف من المديرية، واتصالات من الوزارة... كلهم يتوسلون لولية الامر أن "تتنازل"، لأن "نقل المعلمة لن يفيدها في شيء " أي منطق أعوج هذا؟!
وفي مشهد ثالث... في مدرسة أخرى، تبلغ الطالبات الأخصائية الاجتماعية أن إحدى الفصول أصبحت حفلة، فيها رقص وغناء وتصوير بالهواتف داخل الحصص! تُبادر الأخصائية، بحزم تربوي، وتسحب الهواتف وتُبلغ أولياء الأمور بالحضور. فتفاجأ بأحد أولياء الأمور يثور ويحتج، لا على سلوك ابنته، بل على سحب الهاتف منها! "أنا مدي البنت الموبايل عشان تتواصل معايا"، هكذا قالها وكأن القانون لا يُحرّم إدخال الهاتف إلى المدرسة، أو كأن المدرسة أصبحت صالة ترفيه خاصّة.
المطلوب تشريعٌ يحمي، لا شعار يُنسى
نحن لا نطلب المستحيل.
نطالب بتشريع واضح وصريح يُجرّم الاعتداء على المعلم، سواء كان لفظيًا أو جسديًا.
نطالب بمحاسبة وليّ الأمر الذي يتجاوز حدوده ويظن أن المدرسة مزرعته الخاصة.
نطالب بأن يُعاد للمعلم حقه في اتخاذ الإجراءات التربوية، دون خوف من تحقيق أو خصم أو نقل.
نطالب بإعادة الهيبة للمؤسسة التعليمية، بدءًا من احترام المعلم، لا انتهاك كرامته.
فلا تعليم دون معلم يكون سيدًا في فصله، لا عبداً فيه.
ولا يمكن لوطن أن يرتقي، إذا كان من يُربي أبناءه مذلولًا، مكسور الخاطر، محاصرًا بالشكوك والقرارات والإهانات.
وختامًا، إلى الوزارة مباشرة... إذا كنتم تبحثون عن جودة التعليم، فابدؤوا بحماية من يحمل رايته. وإن أصررتم على تجاهل أصوات المعلمين، فاستعدوا لواقع أكثر قبحًا مما نراه اليوم. واقع بلا علم، بلا تربية، بلا أخلاق.
واقع يخرج فيه الطالب من المدرسة، لا يعرف إلا الإهانة، لأنه رأى معلمه يُهان وسكت الجميع.
أيها المسؤول، كرامة المعلم خط أحمر. لا نريد خطبًا وشعارات، بل قوانين تحميه. نريد محاسبة حقيقية لكل من يتطاول عليه. نريد أن تعود للمدرسة هيبتها، وللمعلم مكانته، وللمهنة شرفها.
وإلا... فأنتم تكتبون شهادة وفاة التعليم. كرامة المعلم ليست شعارًا... إنها معركة يجب أن نربحها. وإلا... فاقرأوا الفاتحة على مستقبل التعليم.
إضافة تعليق جديد