بقلم د. سماح عزازي
حين تنادي بالفضيلة، وتدعو للمبادئ، وترسم طريقًا للتغيير بخطى ثابتة نحو أهداف سامية، تفاجأ بأصوات عالية ترتفع في وجهك، تهاجمك وتحارب كل ما تنشده، وهي في الحقيقة تجهل ما تطمح إليه، ولا تعلم شيئًا عن خطتك ولا أهدافك.
ومن جرّب هذا الموقف، يشعر بمرارة الخيبة، ووطأة الإحباط. فكل مؤسسة تحتاج إلى التطوير والرقي لمواكبة متغيرات العصر، إذ لا يعرف الجمود إلا الحجر، ولا يخشى التغيير إلا من يخاف على مصالحه الضيقة.
إن بلادنا لن تنهض إلا بسواعد أبنائها، ولن تُبنى إلا إذا بدأنا أولًا ببناء هؤلاء الأبناء، بتربيتهم على حب الوطن، والانتماء إليه، وتغذية عقولهم لا أجسادهم فقط. وكما أن الغذاء ضروري للجسد، فإن العلم هو الغذاء الحقيقي للعقل.
ولنأخذ المدرسة مثالًا… تلك المؤسسة الحيوية التي تُعَدّ حجر الأساس في بناء المجتمعات السليمة، شريكة الأسرة في تكوين الشخصية، وتربية الفكر، وصقل المواهب.
لكن مؤخرًا، بدأنا نرى ارتباكًا في الرؤية، وضبابية في الأهداف، أدت إلى انهيار واضح في مكانة المدرسة، وتراجع هيبتها.
في الماضي القريب، كانت المدرسة تُعامل على أنها كيان مقدّس، لا يجوز المساس به، يحظى المعلمون فيها بكل احترام وتقدير، وتُوفَّر لها الإمكانات لتنتج أجيالًا متعلمة، مثقفة، مبدعة في شتى المجالات.
أما اليوم، فقد تحولت المدرسة إلى جندي جريح في معركة
لا تنتهي، ينزف من كل اتجاه، ولا أحد يراه. تعاني من نقص صارخ في الكوادر والإمكانات، ومن صراعات داخلية وضغوط خارجية، أفقدتها قدسيتها، وأسقطت هيبتها، في ظل بيئة مجتمعية لا تهتم بما يجري داخل أسوارها.
لم تعد تهم نوعية الخدمة التعليمية، ولا قيمة المعلومة، المهم فقط أن ينجح الطالب وينتقل إلى الصف التالي، بغضّ النظر عن أحقيته أو مستواه.
أهمية التعليم.
شهادة من قلب الميدان
ويشهد الله أنني لا أكتب هذه الكلمات بحثًا عن ثناء أو تصفيق، بل أسجل تجربة شخصية خضتها بإخلاص، وأرويها من قلب مديرة حملت المدرسة في قلبها قبل أن تحملها في منصبها.
حين توليت إدارة المدرسة، كانت أشبه بالحطام: مبانٍ منهكة، إمكانيات محدودة، طلاب ينتظرون من يمد لهم يدًا لا بالعلم فقط، بل بالرحمة أيضًا. فبدأت التغيير خطوة بخطوة.
أضفت مرحلة رياض الأطفال، رغم نقص الموارد، وجمعت لها الأثاث من المدارس الأخرى بنفسي. جددت الحمامات، وأعدت توزيع الهيكل الداخلي للمدرسة، وأنشأت مسجدًا ليكون منارة للروح والسلوك.
ولأن المدرسة بيت لكل أبنائها، خصصت معرضًا دائمًا داخل المدرسة لتوفير الأدوات المدرسية، والشنط، والأحذية، والزيّ الرسمي للأيتام وغير القادرين، ليبدأوا عامهم بكرامة لا منّة فيها. ونظمت لهم حفلات إفطار في رمضان، جمعت فيها القلوب على مائدة واحدة من المحبة والانتماء.
ولم يكن المظهر بعيدًا عن الجوهر، فوضعت زيًا مدرسيًا موحّدًا لكل مرحلة، بلون يعكس هوية المدرسة وانضباطها: مرحلة التعليم الأساسي تشمل الابتدائي والإعدادي، والمرحلة الجديدة لرياض الأطفال بلون خاص بها، فصار لكل مرحلة حضورها الخاص وتميّزها داخل المدرسة.
ولأنني أؤمن بأن التحفيز مفتاح النجاح، اعتدت في كل مدرسة أديرها — وبلغ عددها خمس مدارس في إدارات مختلفة — أن أُقيم حفلات لتكريم الأوائل والمعلمين المتميزين، لأكرّم المجتهد، وأغرس في كل قلب أن الاجتهاد لا يضيع.
لكن رغم هذا كله، كانت المفارقة المؤلمة أن أكثر من وقف في وجه هذا التغيير، هو ولي الأمر الذي يُفترض أن يكون أول المستفيدين من أي تطور، فإذا به يرفض النظام، ويضيق بالانضباط، ويعادي أي محاولة لإعادة الهيبة والاحترام إلى المدرسة. لأنه للأسف، نتاج بيئة لم تُربَّ على احترام المؤسسة، ولا ترى في المدرسة سوى محطة عبور.
ومع ذلك، لن أفقد إيماني. لأنني أؤمن بأن كل بذرة طيبة
تُزرع اليوم، ستثمر غدًا بإذن الله… وطنًا أقوى، وعقولًا أصفى، ومدارس تعود لتكون منارات حقيقية للعلم والتربية.
إضافة تعليق جديد