الحمد لله الذي نوّر بالقرآن القلوب، وأنزله في أوجز لفظ وأعجز أسلوب، فأعيت بلاغته البلغاء، وأعجزت حكمته الحكماء، أحمده سبحانه وهو أهل الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله المصطفى، ونبيه المرتضى، معلم الحكمة، وهادي الأمة، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحبه الأخيار، ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليما كثيرا ثم اما بعد إن المسلم الحقيقي يكون وفيّا أعظم ما يكون الوفاء لوطنه، محبا أشد ما يكون الحب له، مستعدا للتضحية دائما في سبيله بنفسه ونفيسة، ورخيصة وغالية، فحبه لوطنه حب طبيعي مفطور عليه، حب أجل وأسمى من أن ترتقي إليه شبهة أو شك، حب تدعو إليه الفطرة، وترحب به العقيدة، وتؤيده السنة، وتجمع عليه خيار الأمة، فيا له من حب، فقد قيل لأعرابي كيف تصنعون في البادية؟
إذا اشتد القيظ حين ينتعل كل شيء ظله؟ قال "يمشي أحدنا ميلا، فيرفض عرقا، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساه، ويجلس في فيه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى" أي حب هذا وهو يلاقي ما يلاقي إنه يقول أنا في وطني بهذه الحالة ملك مثل كسرى في إيوانه، وهكذا فإن المواطنة الحقة قيم ومبادئ وإحساس ونصيحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وعزة وموالاة وتضحية وإيثار والتزام أخلاقي للفرد والأمة، إنها شعور بالشوق إلى الوطن حتى وإن كان لا يعيش الفرد في مرابعه، فأين هؤلاء الذين يدّعون حب الوطن والوطنية، ولا ترى في أعمالهم وسلوكياتهم وكلامهم غير الخيانة والعبث بمقدراته، والعمالة لأعدائه، وتأجيج الفتن والصراعات بين أبنائه، ونشر الرذيلة ومحاربة الفضيلة، أين الوفاء للأرض التي عاشوا فيها وأكلوا من خيراتها، وترعرعوا في رباها.
واستظلوا تحت سماها، وكانت أرض الإيمان والتوحيد والعقيدة الصافية، وإن من حقوق الوطن أن يسعى كل فرد فيه للحفاظ عليه وتنميته وازدهاره، ليشعر جميع أفراده أنهم متساوون في الحقوق والواجبات، لا فرق بينهم ولا تمايز، فحب الوطن لا يكون بمجرد الكلمات والشعارات، بل هو مرتبط بسلوك الفرد المحب ارتباطا لا انفكاك منه، يلازمه في كل مكان، في حله وترحاله، في المنزل والشارع، في مقر عمله وفي سهوله ووديانه، فإن حب الوطن يظهر في احترام أنظمته وقوانينه، وفي التشبث بكل ما يؤدي إلى وحدته وقوته، وحب الوطن يظهر في المحافظة على منشآته ومنجزاته، وفي الاهتمام بنظافته وجماله، وحب الوطن يظهر في إخلاص العامل في مصنعه، والموظف في إدارته، والمعلم في مدرسته، وحب الوطن يظهر في إخلاص أصحاب المناصب والمسؤولين.
فيما تحت أيديهم من مسؤوليات وأمانات، وحب الوطن يظهر في المحافظة على أمواله وثرواته، وحب الوطن يظهر في تحقيق العدل ونشر الخير والقيام بمصالح العباد كل حسب مسؤوليته وموقعه، وحب الوطن يظهر في المحافظة على أمنه واستقراره والدفاع عنه، وحب الوطن يظهر بنشر القيم والأخلاق الفاضلة ونشر روح التسامح والمحبة والأخوة بين الجميع، وأن نحقق مبدأ الأخوة الإيمانية في نفوسنا، وأن ننبذ أسباب الفرقة والخلاف والتمزق، وأن نقيم شرع الله في واقع حياتنا وسلوكنا ومعاملاتنا، ففيه الضمان لحياة سعيدة وآخرة طيبة، فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه مسلم.
إضافة تعليق جديد