رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

السبت 19 أبريل 2025 3:34 ص توقيت القاهرة

الأنبياء والملوك… بين النبوّة والخيبة

الجزء الثالث من سلسلة
"بني إسرائيل… من النبوّة إلى الاحتلال"
بقلم د/ سماح عزازي
بعد أربعين عامًا من التيه في الصحراء، دخل بنو إسرائيل الأرض التي كتبها الله لهم، لا بجيل العصيان، بل بجيل جديد وُلد في القَفر وتربّى على الحرمان، وتطهّر من ذل العبودية.
بدأت رحلة جديدة، فيها قامت دولة، وارتفعت راية، وبُنيت أول مملكة لبني إسرائيل، تحت قيادة نبي وقائد: داوود عليه السلام، ثم توسعت واتسعت في عهد ابنه سليمان عليه السلام، نبيّ الملك والحكمة.
لكن المجد لا يصمد طويلًا أمام نزعة الطغيان والاختلاف. فما إن انتهى عهد النبوّة، حتى بدأت الممالك تنهار، وتفككت الأسباط، وانقسمت الأمة الواحدة إلى مملكتين: مملكة إسرائيل في الشمال، ومملكة يهوذا في الجنوب.
تحوّلت الرسالة إلى سلطة، والعهد إلى خيانة، والمقدّس إلى تجارة.
في هذا الجزء من هذه السلسلة، نروي قصة الأنبياء والملوك… كيف توالى الأنبياء على بني إسرائيل، فواجهوا الخذلان، والتمرد، والقتل.
وكيف تحولت أمة اصطفاها الله، إلى نموذج حيّ على سنّة الله في الأمم:
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
دخول الأرض المقدسة النصر المؤجل
لم يكن التيه في الصحراء مجرد عقوبة، بل كان مرحلة تربية وتطهير. جيل خرج من مصر بذهنية العبيد، لكنه لم يكن مؤهلًا لقيادة أمة. أربعون عامًا في التيه، حتى نشأ جيل جديد، لم يعرف الذل، ولا انحنى للعجل.
وهنا، جاء وعد الله، ودخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون، تلميذ موسى وخليفته، كما جاء في الحديث الصحيح:
"غزا نبي من الأنبياء... فقال لهم النبي: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها..." الحديث – رواه البخاري.
دخلوا الأرض المقدسة بالإيمان والطاعة، لا بالمراوغة والتمرد. لكن سرعان ما تبدّل الحال.
من الرسالة إلى المُلك
كانت بنو إسرائيل أمةً حملت رسالة السماء، تقودها النبوّة وتوجّهها الوصايا، لكنهم ما لبثوا أن طلبوا شيئًا آخر: الملك. أرادوا أن يكون لهم سلطان كغيرهم من الأمم، فقالوا لنبيّهم كما ورد في القرآن:
{ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكًۭا نُّقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ} [البقرة: 246].
كان الطلب في جوهره خروجًا من عباءة النبوّة إلى جلباب المُلك، فابتلاهم الله بملك اسمه طالوت، رغم أنهم اعترضوا عليه، لأنه "ليس من السادة"، ولا من أصحاب الثروة.
ومع أن الله اختاره لعلمه وقوته، كما في قوله تعالى:
{إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُۥ بَسْطَةًۭ فِى ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ} [البقرة: 247]،
إلا أن الاعتراض بقي سمتهم، حتى جاءت اللحظة الفارقة، وبرز شاب شجاع يُدعى داوود، فقتل جالوت، وبدأت معه أول مملكة إيمانية تجمع بين النبوّة والملك.
كان التحوّل من "شعب الرسالة" إلى "دولة الملك" لحظة فاصلة في تاريخ بني إسرائيل، لحظة حملت في طياتها المجد والمحنة معًا، إذ دخلت السياسة على الروح، ودخل الهوى على الوحي، وبدأ الصراع بين ما هو سماوي وما هو دنيوي... صراع سيُعرِّيهم عبر التاريخ، ويكشف هشاشة الممالك إذا خلت من نور النبوّة.
داوود عليه السلام… نبي الملك والعدل
كان داوود عليه السلام نبيًا وملكًا صالحًا، آتاه الله من فضله، فجمع بين النبوة والحكم، وكان مثالًا في العدل والورع. قاتل جالوت، فمكّنه الله في الأرض، وأعطاه مُلكًا عظيمًا، كما قال تعالى:
{وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ ۖ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُ} [البقرة: 251].
وكان قاضيًا عادلًا، حذرَه الله أن يحكم بالهوى، فكان في قضائه عبرة للمؤمنين، كما في قوله تعالى:
{يَـٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَـٰكَ خَلِيفَةًۭ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱحْكُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ} [ص: 26].
وسُخّرت له الجبال والطير، تسبّح معه، وقد وصفه الله بقوله:
{ٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلْأَيْدِ ۚ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ} [ص: 17].
كان شديد العبادة، كثير الصيام والقيام، وقد ورد في السنة قوله صل الله عليه وسلم:
"أحبّ الصيام إلى الله صيام داوود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأحبّ الصلاة إلى الله صلاة داوود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه."
(رواه البخاري ومسلم)
بنى داوود عليه السلام نواة الدولة الإيمانية، ووضع أسس الحكم العادل، ممهدًا الطريق لابنه من بعده.
سليمان عليه السلام… نبي الملك والحكمة
ورث سليمان عليه السلام النبوة والملك عن أبيه، فآتاه الله مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، كما دعا ربه:
{قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًۭا لَّا يَنبَغِى لِأَحَدٍۢ مِّنۢ بَعْدِىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ} [ص: 35].
وسخّر الله له ما لم يسخّره لأحد الرياح، والجن، والطير،
كما في قوله تعالى:
{وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌۭ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌۭ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُۥ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ ۖ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 12].
وسخر له النمل، والإنس، كما قال تعالى:
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَـٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17].
كان ملكه مؤسسًا على العلم والحكمة والعدل، وظهر ذلك في قصة النملة، والهدهد، وملكة سبأ، التي آمنت وأسلمت تحت سلطانه.
وقد أثنى الله عليه وعلى عبوديته، فقال:
{نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ} [ص: 30]
وكان لا يغفل عن ذكر الله، ولا تشغله الدنيا عن الآخرة، رغم عِظَم ملكه وسعة سلطانه.
وقد ورد في السنة حديث يبيّن رغبته في الجهاد ونشر التوحيد، قال النبي صل الله عليه وسلم:
"قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على مئة امرأة، تلد كل واحدة غلامًا يقاتل في سبيل الله..."
(رواه البخاري ومسلم)
بهذه النبوة الحكيمة، والمُلك الراسخ،
بلغت مملكة بني إسرائيل في عهد سليمان ذروتها في القوة والوحدة والمهابة. لكنها كانت قمة قصيرة، فمع موت النبي الملك، بدأت الانهيارات.ما بعد هذا المجد... لم يكن إلا خيبة وعصيانًا وانقسامًا.
الانقسام والخيبة: الممالك المتصارعة
ما إن رحل سليمان، حتى انقسمت المملكة إلى قسمين:
مملكة إسرائيل في الشمال (عاصمتها السامرة)،
ومملكة يهوذا في الجنوب (عاصمتها أورشليم).
سقطت روح النبوّة، وبدأ عصر الملوك المستبدين. زحف الفساد، وتحالف الكهنة مع الملوك، وظهرت عبادة الأصنام من جديد. فأرسل الله فيهم أنبياء من بعد سليمان: إلياس، اليسع، زكريا، يحيى، وعزير، وكلهم واجهوا التكذيب، وبعضهم واجه القتل.
قال تعالى:
{أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌۭ بِمَا لَا تَهْوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ ۖ فَفَرِيقًۭا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًۭا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].
تحولت الأرض المقدسة إلى ساحة صراع، وتحوّل بنو إسرائيل من حملة رسالة، إلى أصحاب ممالك مادية، تسحقها الأهواء.
بين النبوّة والمؤامرة
ما بين داوود عليه السلام وسليمان، ثم ما أعقبهم من ملوك بني إسرائيل، تكتمل الثنائية العجيبة التي ستبقى سِمَة في تاريخ هذه الأمة نبوّةٌ تهدي، ومُلْكٌ يُضلّ.
لقد بدأوا يحوّلون النبوّة من رسالة سماوية إلى مشروع سياسي دنيوي، يبرر كل شيء باسم "شعب الله المختار" والهيكل حُلمًا يُستعاد عبر المؤامرة. وهو ما سيمتد لاحقًا إلى فصول التآمر مع الفرس، ثم مع الرومان، ثم مع قوى العالم الحديث… في طريق طويل من التحايل على الدين، وتحريف التاريخ، وتسويق الكذب باسم العقيدة.
لقد حاولت النبوّة أن تبني أمة على أسس الوحي، تؤمن بالتوحيد، وتحكم بالعدل، وتسير على صراط الله المستقيم. لكن ما إن غابت الشمس عن أنبيائهم، حتى تكالبت عليهم أهواء الملوك ومطامع الأحبار، فانقسمت المملكة الواحدة إلى مملكتين متصارعتين: "مملكة إسرائيل" في الشمال، و"مملكة يهوذا" في الجنوب.
وهكذا، دخلت بني إسرائيل مرحلة جديدة من الانحدار، حيث ضاعت الرسالة، وارتفعت مكانها الأوثان، والرشوة، والفساد، وتحريف التوراة. فكان أن سُلّط عليهم الأعداء، وجاءهم العقاب الإلهي على يد البابليين، فدمروا مملكتهم، وأحرقوا هيكلهم، وساقوا كبارهم أسرى إلى أرض المنفى، في واحدة من أقسى المحطات في تاريخهم.
لكن ذلك الحطام لم يُطفئ الحلم، بل زاد من شغفهم بـ"العودة" و"الملك". ومن هنا، من بين رماد النبوّة وضياع الرسالة، بدأت بذور المؤامرة تتشكّل مؤامرة استعادة الهيكل، وبناء مملكة صـ، هيون، حتى لو كان ذلك على حساب الدين، والأخلاق، والشعوب الأخرى.
وهنا، في هذا المفصل التاريخي، تتغيّر هوية بني إسرائيل
من أتباع أنبياء إلى صُنّاع مؤامرات.
ترقبوا في الجزء الرابع من السلسلة:
السبي البابلي… حين أغلقت السماء أبوابها
سنسرد قصة الغضب الإلهي، ودمار المعبد، وسقوط القدس، ونفي بني إسرائيل إلى بابل، وكيف كانت تلك المرحلة نقطة التحول الكبرى في العقيدة والتاريخ، وبداية مشروعهم السرّي نحو العودة والسيطرة.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.