رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأحد 20 أبريل 2025 5:25 م توقيت القاهرة

     البحــــــر المـــــــيت         

** قصة قصيرة **    
            
                       البحــــــر المـــــــيت 
            ----------------------------------------------------

على شاطئ البحر المتخاصم الأمواج، والذي يبدو كأب  اختلف أبناؤه على تقسيم الميراث وهو حي وكل منهم يصارع الآخر  ليصل أولا إلى الشاطئ ويكأنه سيحصل على الجزء الأكبر من الثروة. والثروة سراب 

صراع الأمواج وثورتها لا يقل احتداما عن صراع  الأنفس التي   تخالف منطقية الفكر ونظريات العقل وتلجأ فارة من عشوائيتها وربما حمقها لكاتم الأسرار بشاطئه  تلقي إليه ماتحمل من  أنات وهنات وتروي له قصصا عبر الزمان وحكايات 
يتصدر المشهد رجلان ، أحدهما شاب ثلاثيني يبدو  كأشعة الشمس وقت الظهيرة  ، والآخر عجوز قرض الزمن حواف سنواته السبعين فظهرت عورتها في ملامح وجهه حقيقة عارية ،  لم  تفصلهما إلا خطوات  ولكن شتان بينهما. 

لمح الشاب بوجه العجوز أخاديد غائرة. نحتتها يد الهموم بمهارة وإتقان ، فاقترب منه برفق وحاول أن يلتقط منه طرفا للحديث  لكن العجوز غامت سحب وجهه أكثر وأكثر و وقفزت نظرة ضيق جريئة من عينيه  وهو ينظر بنفور لذلك المتطفل الذي أفسد عليه  خلوته 
تحرك  العجوز مبتعدا  بخطوات بطيئة  يتوكأ عصاه الواهنة التي لا تهش غنما ولا تقضي مأرب سوى مصاحبته  ، واتجه نحو بعض الصخور البعيدة القابعة في أحضان البحر منذ سنوات يلتهم جسدها التهام المستأذبين .

أشفق الشاب على العجوز وهو يترنح يمينا ويسارا لا يقوى على المسير ويعاني للوصول للصخرة  فأسرع  نحوه يحاول مساعدته وهو يقول. له  برفق : أنا اسمي حسن وحضرتك ؟
زاد تجهم وجه الرجل واحلولك ليله في وضح النهار   وهو يقول غاضبا  : انت هتصاحبني أنا مسألتكش عن اسمك وملكش دعوة باسمي إيه التطفل دا؟ 
تعجب حسن من رد  الرجل لكنه حدث نفسه قائلا : لعله مريض أو ربما تقدم العمر وعاد يقول له : أنا آسف لو ضايقتك ، أنا زي ابنك ياحاج وقلت أساعدك أحسن تتزحلق تقع 
استشاط الرجل غضبا واندفع كالبركان الثائر يقول . : ابني...أنا معنديش ولاد  فاهم .......معنديش ولاد ،.........ومش عاوز مساعدة منك ولا من حد خليك في حالك .

تعجب حسن من تصرف الرجل ولكنه لم يجرؤ على استكمال الحوار والرجل ثائر يتمتم بكلمات مبهمة كطلاسم تعويذة سحرية  وهي وإن دلت على شئ فهي تدل أنه من القاسية قلوبهم  رغم يده التي تلوح تلويح البائس اليائس حتي وصل إلى إحدى الصخرات العجوز مثله  وارتمى بأحضانها مطأطئ الرأس يطيل النظر  لأمواج البحر التي تنهش أحشاء الصخرة بضراوة كما ينهش الزمن ماتبقى من أيامه
لم يستطع حسن أن يمنع فضوله من مراقبه الرجل عن بعد خشية أن يسقط في البحر فجأة وهو الواهن الضعيف لا يقوى على مواجهة كيد بناته و غدرهن ولاحظ أن الرجل تثور ثورته وينطلق في الصياح كلما اقترب أحد الصبية  من الصخرة  للعب البرئ أو التصوير فكأنما صارت حدود مملكته لا يقبل أن يتعداها أحد

تكرر المشهد  لعدة أيام واعتاد حسن وجود  العجوز  كل يوم نفس المكان وعلى نفس الحال  من الشجار مع الصبية الصغار الذين يحاولون اقتحام مملكته المزعومة  
وذات يوم وحسن. يستمتع بصحبه الشاطئ خلال رحلة المشي المعتادة  لاحظ غياب العجوز الغاضب عن مملكته فتعجب وخشى أن يكون قد أصابه مكروه  فاتجه نحو بائع الذرة الذي استوطن  المكان وسأله عن العجوز
رد البائع بتأفف:  ياساتر الرجل القتم اللي وشه يقطع الرزق دا أعوذ بالله
ياسيدي تعب من شوية وكان هيقع في البحر لولا العيال الصغيرة لحقوه وجابوه هنا لحد مابعتنا لحد من ولاده ياخده 
تعجب حسن وقال للبائع: هو عنده ولاد؟
أجاب البائع : ياأستاذ شايف الصيدلية اللي عـ  الناصية اللي أدامك دي بتاعه ابنه، دكتور أد الدنيا ربنا يحميه والتاني عقبال أملتك عنده مكتب مقاولات محترم دي عيلة ربنا فاتحها عليهم ربنا يدينا زيهم .

بلغت دهشة حسن مبلغها مما سمع  ووجد قدماه تقودانه  نحو الصيدلية التي أشار إليها بائع الذرة ليجد أمامه شاب طويل القامة يقاربه في العمر أو يزيد قليلا  ويبدو الشبه بينه وبين العجوز واضحا 
ابتسم الشاب قائلا : تحت أمرك
ارتبك حسن وتردد كثيرا قبل أن يقول للصيدلي:  أنا آسف للتطفل بس أنا جي أطمن على الوالد  وحكى له مادار بينهما  منذ أيام ورفض الوالد مساعدته ومعاملته بجفاء غير مبرر رغم أنه كان يحاول حمايته من الغرق  

بدت ملامح وجه الصيدلي تتغير تدريجيا  وقال : 
والدي غرق  من زمان للأسف ، وكنا على وشك الغرق معاه لكن الحمد لله  قدرنا نتجاوز المحنة أنا وأخويا ووالدتي،  لكن هو لأ ومش بس كدا دا رافض إن حد مننا يقرب منه ويساعده  ومعتبرنا أبناء عاقين لأننا رفضنا تصرفاته بعد ماطلق والدتنا  بعد عشرة عمر طويلة بينهم  لأنها تعبت من تسلطه وجبروته سنين وبدأت وترفض وتثور على أسلوبه وطبعا هو متعودش منها غير على الطاعة العمياء وعدم المعارضة في أي شئ فكانت الصدمة وبداية الانفجار وطلقها
ولأننا مكوناش في صفه في القرار اللي أخده اعتبرنا متآمرين عليه أنا وأخويا ومتضامنين معها  ضده وقاطعنا وعاش لوحده ورافض أي حد فينا يزوره أو يساعده في حاجة رغم مرضه الشديد وبيعتبرنا متنا زي مابيقول .

اعتذر حسن للصيدلي مبررا له سبب سؤاله وأنه لم يقصد التدخل لمعرفة أسرار عائلية وإنما بدافع الإطمئنان على الوالد واستأذن في الرحيل
وخلال رحلة العودة على شاطئ البحر  تدافعت كالموج  في رأسه تساؤلات عدة .....
ماالذي يدفع إنسان أن يهدم حياته بهذه الطريقة؟وهل من المنطق أن يستعمر العناد والكبر  عقل إنسان لدرجة تجعله يدمر حياته وحياته أقرب المقربين  لمجرد أنهم خالفوه الرأي أو اعترضوا عليه؟
وهل نجح العجوز في تحقيق السعادة لنفسه بفرض رأيه على الجميع وفرض سياج من العزلة حول نفسه بهذه الطريقة  ومقاطعة أولاده؟ وهل ...وهل... وهل... تساؤلات عديدة  ليس لها جواب 

وفي اليوم التالي عاد حسن لمسيرته ليجد العجوز قابع فوق الصخرة وكأنما كونا معا لوحه متكاملة يجلس  مطأطئ الرأس ينظر للأمواج وهي تكيل  للصخرة صفعات وصفعات  لانهائية  
لم يتجه حسن نحوه للإطمئنان عليه أو جلس يرقبه كما تعود خوفا من سقوطه غريقا في البحر فقد أدرك أنه بالفعل سقط غريقا في البحر الميت الذي لا نجاة منه 
                                       

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.